التسـكع في الحـارة - التسـكع في الحـارة - التسـكع في الحـارة - التسـكع في الحـارة - التسـكع في الحـارة
التسـكع في الحـارة
أعشق في "الحارة" لحظات مرت في طفولتنا، حيث كنا نحب "القسدرة" ( التسكع ) في الحارة وفي أزقتها التي تتلوى كأفعى وعلى أدراجها التالفة، حيث نشاهد نوافذها الفوضوية التي ينعكس منها أفق للغروب أرجواني اللون يعطي شغب حارتنا جمالاً ورقة وعذوبة.
في هجيع الليل الأخير كانت تستريح شوارعنا من خطانا وعبثنا ولم نكن نحب التسكع ليلاً، ليس خوفاً إنما لأننا فقدنا الدافع لذلك؛ وجود البنات على أطراف الطرق أو "البلكونات" العشوائية المغطاة بأحبال الغسيل الملون، وكان كل تسكعنا لأجل لفت إنتباههن، حيث كنا نرتدي أجمل ما عندنا من ملابس مهترئة.
كنت صغيراً في أيام تسكعي في شوارع حارتنا الجميلة، وكنت حالماً بالشهرة عبر أحاديث النساء وعذوبة كلامهن، ولكن ذات يوم استرقت السمع إلى تلك الأحاديث، فوجدتها لا تتعدى المطبخ وطرق إزالة الأوساخ عن الأيدي والأرجل، وأعشاباً تداوي حب الشباب والدمامل، وجدتها عن الجلابيب والمناديل، وعن "المس" تغريد. يا ويحكَ يا هشام؛ لم تكن ملفتاً لانتباههن ولا كنت محور أحاديثهن.
بعد هذا العمر وعشرين عاماً مرّت، أمرُّ في ذات الأزقة والشوارع، وأشاهد ما خطّته أقدام الغرباء على جنباتها؛ غرباءٌ من كل بقاع الدنيا؛ من مصر من الصين من الهند من الفلبين من سيرلانكا ومن غيرها. أفتش عن رفاقي القدماء ولا أجدهم يعبثون، أفتش عن حجارة وأدراج كانت قد اصفرت لهول التقدم في العمر، وأفتش عنهم بنهم. ينادي قلبي: رفاقكَ لم يكبروا بعد، إنّهم أطفال في الذاكرة.
أفتش عن رائحة الطعام التي كانت تنبعث من شبابيك مطابخنا و رائحة خليط من الثوم والجوارب المستعملة منبعثة من غرف العمال المصريين الذين يتعبون ويعرقون كل يوم.
أشتاق لأيام طوال، حيث كنت عابثً بأرض كان يزرعها أجدادنا وأخرب ما يصنعون.
أشتاق لأعراسنا والشاي فيها، وأكوابٍ كنت أجمعها من أفواه الناس لأعيدها للشخص الذي يُعدّ الشاي، لأفوز بكوب شاي لا أحبه، و حيث أنه قال أجمع عشرة أكواب، وخذ كوباً مليئاً.
أشتاق إلى بداية عشقي للتدخين، حيث كنت مهووساً به وبمضغ النعنع بعد كل سيجارة.
أشتاق لمدرسةٍ كنت أكرهها وأحب العمل أكثر.
أشتاق لطفولةٍ وشباب ومراهقة مرت مِثلَ سيف على رقبة قتيل.
آه كم أشتاق لطفولتي وعمرٍ مضى وسنينَ ضاعت سدى.
آه كم أشتاق