مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي - مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي - مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي - مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي - مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي
مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي
السبيل
معتز أبو قاسم
شيء من الوفاء للنفوس الرفيعة (4)
مصطفى صادق الرافعي.. أديب السموّ الأدبي
لست أُبالغ إن أنا قلت: إن الرافعي في طبقة من الأدب لا يُدانيه فيها أحدٌ حتى أشدّ طلابه تعلقا به وقربا منه سواء كان قيّم العربية محمود شاكر أو محمد سعيد العريان ناشر لواء الرافعية في زمن كاد أن يُطوى به.
وهذه الطبقة التي صاغها وكونها بنفسه ولنفسه أجل أسبابها التي هيأتها له ذاك الإحساس العميق بالعربية والذي تخلل حياته من خلال محنة استبطنت في داخلها منحة إلهية، فأُذنه لم تكد تألف العامية بعدُ حتى حيل بينه وبينها بمرض تركه وقد خلّف في أذنه كمثل الصمم فاحتضنته الفصيحةُ المبثوثة في مكتبة والده القاضي لنفسها وباحت له بأسرارها، فآنسَ منها العطف عليه وآنستْ منه الإقبال عليها، فنشأ في محرابها يتعبد الله كلما كُشِف له شيء من خَباياها سطع نورٌ في جنبات روحه، فما زال يتتبع دروب العربية ويتخلل أغوارها حتى أضاءت له روحه عن فطرة اللغة حين تكون صورة صادقة عن فطرة الروح السامية.
وليس سِرّا أن كتابات الرافعي لم تحظ بحفاوة من النّقاد تليق به، وهذا ظلمٌ مُنِي به كاتبٌ عملاق عرف قدرَه الكبارُ فهاجوه وعارضوه بما استطاعوا من الييان والحجة وجهِلَه الصّغار وأهل الصَّغار فأرادوا طمس ذكره بتجاهله والكفّ عن الإشارة إليه.
وكان من دواعي زهدهم في كتاباته مقاطعتهم تلك الروحَ الإسلامية التي كانت تشبّ نارُ حججِها من بيانه حارقة هشيم فاسد الفكر وخبيثه.
وداعٍ آخر ربما يتحمل الوزر الأعظم فيه الرافعي نفسُه، وهو ذلك الانقطاع الذي يصيب القارئ أحيانا فيُعجزه عن ملء الفراغ بين المقدمة والنتيجة، وقد علل الناقد الكبير محمد رجب البيومي هذا التوقف الذي يشعر به القارئ أحيانا بأن الرافعي كان يداور المسألة ويحاورها مع خاصة نفسه فإذا ماكتب أسقطَ الحوار النفسي الذي أجراه مع ذاته ودوّن ما اطمأنّ إليه من المعنى. فبذلك يفقد القارئ أحيانا الخيط الرابط، فنجدنا نعيد قراءة بعض عبارات الرافعي مرارا حتى نعيد ما انقطع من الفكر لا ما انفصل من السرد.
ومع كل هذا الاستبعاد الذي يُحيق بأدب الرافعي في مستوى النقد والتحليل إلا إن للرافعي شعبية وهيبة عند قارئه، فهو كاتب لا ينفك يجبرك أن تقرأه بتأني وروِيَّةٍ، فلا تستطيع أن تمضي مسرعا ثم تزعم أنك قرأتَ الرافعي أو أن تتبخبخ بين صحبك أنك قرأته، هذا محال في العقل بعيد، فأدب الرافعي لا يجود بمتعته إلا لمن فهم مَرامي كلامه على وجه من "الصلاحية" و"الخيرية" فالرافعي كاتب ينصح في بيانه ويتقي الله في كلماته ويستعصم بالجملة القرآنية جمالا وجلالا وحكمة.
وللجملة القرآنية مع الرافعي قصة ذات مغزى بعيد وربما كانت هي السبب المباشر في أنك لا تجد في الإعلام العلماني الذي يُخنى على أجهزة الثقافة فُسحة تُعطى للرافعي كما أعطت لطه حسين مثلا، وربما كان هذا أمرٌ طبيعي فها هو الإعلام يضيق كذلك بالعقاد العملاق، فنحن نجد العقاد أكثر إنتاجا من طه حسين وأكثر تنويعا وأكثر شاعرية وأعمق نقدا، ولكن بقي للعقاد عيبٌ - في عيون القائمين على ثقافتنا - هو مشاركة الرافعي الدِّفاعَ عن الإسلام وعن لغة القرآن وأنه خطّ عبقريات إسلامية خلَّدتْ صورا من البطولة الإسلامية والحكمة والمدنية للجيل الجديد. فرآها البعض تعارض تلك الصور التي انتزعها طه حسين في ترجماته لأعلام من الغرب لكي تكون مَثلا للجيل الجديد ومُثلا تُحتذى.
ولقد ذهب مريدو طه حسين أبعد مما أراد طه وخلدوه وثنًا تُعلّقُ عليه كلُّ الآثام الجديدة من أدب ونقد وتنوير وتجديد، حتى لو كان لطه حسين حديثٌ يخالف فيه ما ارتآه من سالف أفكاره وكتاباته.
ولن أختم قبل أن أتبرّك بذكر كتاب الرافعي " وحي القلم"، فبيانه فيه يكاد يكون معجزة للإنسان في خاصة صفاته، فلما تفضل الله جلّ وعلا على الإنسانية قائلا "علمّه البيان" كان المقصود شريف البيان ورفيعه وبليغه الذي يسمو بالإنسانية حتى يكون البيان آية لله على خلقه، فسبحان من خلق الرافعي وسبحان من علمه.
ونجد للرافعي في "وحيه" أسلوبا عجيبا في الكتابة يشبه الظفيرة التي تضم الجمال والحجة أو يسبكهما وجهين لعملة واحدة، فلا تملك أن تتبين الحجة إلا جميلة، ولا تطيق أن تبصر الجمال إلا مُحتجًّا لنفسه.
وإنك لتجده كذلك عجيبا في إبلاغ نصيحته، فهو يطويها كوردة تتفتح رويدا رويدا وأنت ماضٍ في قراءتك متذوقًا لمقالته، فما أن تنتهي حتى تُحِسَّ نفسك وقد عقَلَت عنه وتفقهت واطمأنت.
وأحيانا يأتيك بأسلوب من السخرية ساحر، ولو شاء أحدهم أن يكتب أطروحة جامعية عن فن السخرية عند الرافعي؛ لوجد مادة دسمة تُقيم دراسة تامة الأركان تقعيدا وأمثلة.
وأحيانا يُغيثك بالحِكَم تلو الحِكَم والتي تحتاج نفسُك أن ترتاح بين انتقالاتها لما فيها من القول الثقيل.
لكأنَّ قلمَ الرافعي غَشِيَهُ النورُ الإلهي فاصطنعه وحيا إنسانيا يُبقي على الصلة بين السماء والأرض، لكأن مددا من الجمال ومددا من المعاني وأمداد من التسديد والتأييد وهبتها العناية الربانية له، وربما لم يكن لهذا كلِّه أن يكون لولا أنه وهب نفسه للعربية ووهبَ قلمَه لله على وجهٍ هو من الاصطفاء الإلهي.
* من بيان الرافعي:
"العلماء ورثة الأنبياء، وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومِحن ومجاهدة في هداية الناس ومراغمة للوجود الفاسد ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة، فهذا كله هو الذي يُورثُ عن الأنبياء، لا العلم وتعليمه فقط".