شهادة حية من #تركيا .. - شهادة حية من #تركيا .. - شهادة حية من #تركيا .. - شهادة حية من #تركيا .. - شهادة حية من #تركيا ..
عبدالحميد راجح كردي
شهادة حية من تركيا ..
عاشها د.عبد الله معروف من هناك
شهادة التاريخ لا تكون لأي حدث... وقليل من يصطفيهم الله سبحانه وتعالى ليشهدوا للتاريخ على أحداث تغير وجه الدنيا.. ولكن في حالتنا هذه لم يكن المصطفَون قليلاً بل كانوا ثمانية وسبعين مليون إنسان.
ما إن تواترت الأخبار من كل مكان بحدوث الانقلاب إضافةً إلى عشرات الاتصالات من كل مكان للاطمئنان: المغرب وأمريكا وكندا وفلسطين والأردن وغيرها.. ما إن بدأت هذه الأمور تتسارع وتتلاحق حتى كاد الدم يتجمد في العروق خوفاً على هذه البلد الطيبة المباركة.. ولم يكن قد خفف هذا البرد الذي تسرب إلى الجسد إلا تحليل راقٍ من صديقٍ عزيز خبيرٍ اتصل بي ليطمئنني أن أركان الفشل كلها تحيط هذه الحركة الانقلابية.. وبدأت الدعوات تتوالى بعد دعوة الرئيس أن على الجميع النزول إلى الميادين.. في البداية لم يكن من الحكمة النزول قبل تبين الوضع العام للشوارع.. فأقل ما تريد في هذه اللحظة العصيبة أن يجد فيك جنود الانقلاب (الذين قد يكونون في الشوارع) طعماً سهلاً فيقولوا: (وجدنا عناصر خارجية)، فتنقلب المساندة التي طلبتها لإخوانك الشعب التركي عبئاً عليهم...!
لكن بعد أن تبين الوضع الحقيقي وأن الناس باتت هي التي تتدفق لتحتل الشوارع، وأن المساجد تؤذن في كل مكان.. لم يكن بد من الخروج وفاءً لهذا الشعب وهذا البلد الذي ما عرفنا عنه إلا الحب والخير والبركة.
قررت أن أقوم بدورٍ صغير فقط: أسير في الشوارع القريبة وأطلق بوق السيارة - كبعض السيارات التي كانت تتجول - لدعوة الناس للنزول للميادين وإن تجاوزت الساعة منتصف الليل، حتىإذا شعرت أني فعلت ما أستطيع عدت للمنزل... وفيما أنا أسير في شارع بات مزدحماً بالسيارات التي تطلق الأبواق وبالناس المنهمرين كالسيل إذا بشابين وضيئين يتقدمان للسيارة وقد أبصروني فيها وحدي، فقال أحدهم: (خذنا معك.. الكل ذاهب للدفاع عن بيت الرئيس في "كسيكلي") ولم أكد أقول شيئاً حتى ركبا معي.. فقلت: على بركة الله.
في الطريق ازدحم الشارع حتى اضطررت لإيقاف السيارة قريباً من المكان والنزول مشياً... فإذا بالآلاف تغطي شارعاً ضخماً يحيط ببيت الرئيس كالسيل الجارف من كل حدبٍ وصَوب.. ومآذن المساجد تنادي وتصدح.. والمسجد الكبير هناك قد تحول إلى منصة توجيه حكومي للناس تتابعهم بالأخبار وتبلغهم بما يحدث أولاً بأول ثم تقرأ سورة النصر وسورة الفتح.. والناس من كافة الأعمار والأشكال والألوان تملأ المكان.. عجائز.. كبار.. صغار.. شباب.. محجبات.. غير محجبات.. ملتحون.. غير ملتحين... الكل على صعيد واحد... لكن اقشعر بدني عندما بدأ الداعي يدعو الله عز وجل من مئذنة المسجد والكل بلا استثناء يرفع يديه وتنادي الألوف (آمين).. إذ إن الداعي بدأ يدعو فقال: (اللهم لأجل فلسطين.. لأجل غزة.. لأجل سورية...).
كنت أتجول هنا وهناك حتى عثرت بين الألوف الهادرة على صديق عزيز جداً قدر الله تعالى أن نلتقي الليلة ونحن الذين لم تسنح لنا الفرصة للحديث منذ شهور.. فأمضينا الليلة معاً في هذه الشوارع بين الألوف الهادرة.. وكانت مئذنة المسجد أعلنت أن زوجة ابن الرئيس موجودة بالفعل في بيت الرئيس، وأن على الجميع البقاء لحمايتها وحماية بيت الرئيس.. إذ إن دبابات الانقلابيين ليست بعيدة عن المكان...!
هالتني عظمة هذا الشعب حين رأيت الناس قد أتوا بحافلات كبيرة وجرافات وشاحنات كبيرة فأغلقوا بها الشوارع حول بيت الرئيس.. والكل يتحلق حول سيارات الشرطة الخاصة التي أحاطت المكان وبعض الناس يقف فوفها إلى جانب الشرطة المدججة بالسلاح في مشهد لا يمكن وصفه.
بقينا كذلك حتى أشرقت الشمس والأخبار السعيدة بفشل الانقلاب هنا وهناك تتوالى مع هذه الجموع الهادرة بالتكبير والتصفيق والدعاء والصلاة... وكان خلالها عدة مواقف عجيبة: ففي إحدى اللحظات سمعنا صوت انفجار وعرفنا أنها كانت قنبلة أطلقت في مكان غير بعيد.. وبعدها سمعنا صوت انفجار آخر من ناحية الجسر (ذكرني بأصوات الانفجارات التي كنا نسمعها في القدس أيام انتفاضة الأقصى).. وكانت الأخبار حول سيطرة الانقلابيين على بعض الطائرات العسكرية هي أكثر ما يخيف الناس.. لكن سرعان ما خرج الداعي من المئذنة ليعلن السيطرة على الأجواء ويدعو الناس أن لا يخافوا إذا سمعوا صوت أي طائرة لأنها ستكون تابعة للحكومة شرعية.. وبدأت الطائرات العسكرية تحلق في كل مكان بين الفينة والأخرى خاصة ناحية الجسر.
أحدهم لاحظني وصديقي العزيز نتكلم العربية، فسألني: من أي البلاد أنت؟ فقلت كالعادة: (فلسطين) فإذا به تنفرج أسارير وجهه ويرحب ترحيباً حاراً ويحدث من حوله بذلك إذ أسعده أن يرى إخوانه يقفون معه في الشارع.
بحثنا عن ماء قبل الفجر.. وقد فتح أحد المحلات بابه فانتهى الماء الذي يبيعه من كثرة الناس.. فاضطررنا لشرب لترين من الكولا..! فهو كل ما وجدنا.. حتى إذا ما أشرقت الشمس إذا ببعض المحسنين يأتي بصناديق من الماء يوزعها مجاناً وهو ينادي: (في سبيل الله).. والكل يتحرك كأنه يعرف دوره جيداً.. بعضهم يجلس في منتصف الشارع، والبعض ينام في الطريق.. بل هالني أن أرى عائلة كاملةٍ بطفلها النائم في العربة ترابط قبيل الفجر في الشارع.. وأحد الناس أتى بخيمة صغيرة ونصبها في الحديقة القريبة ليبقى هناك.. وبعد شروق الشمس وصلت سيارتان إضافيتان للشرطة الخاصة ففتح لها الناس الطريق وهم يصفقون بحرارة.. حتى إذا وقفت إحدها تحركت إليها الجموع الغفيرة ترحب بالشرطة وتسلم عليهم.. وأتى أحد الرجال فقبل رأس أحد أفراد الشرطة وسط التصفيق والتكبير.. ولفتني أن الناس كانوا في قمة التنظيم والانضباط على غير ترتيب مسبق..!
سجل الشعب التركي في هذه الليلة قصةً لا يمكن أن ينساها التاريخ.. وأثبت أنه شعب عظيم مثقف يفهم ما حوله بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. فأكرمٍ بتركيا وأعظِم بها.. وقد عَظُمَ لتركيا ما عَظَّم الله لها.