يا أم الزيتون والخُبّيزة - يا أم الزيتون والخُبّيزة - يا أم الزيتون والخُبّيزة - يا أم الزيتون والخُبّيزة - يا أم الزيتون والخُبّيزة
التاريخ صعب، الأيام حادّة للغاية وتجرح عندما لا يكون لك شيء محدد لتفعله. من مدة معيّنة، تحديدًا منذ الوقت الذي فقدنا به أمي، لم يعد لفصول السنة قيمة، أو تستطيع القول بأن لا شيء يختلف سوى الأرقام، أرقام السنوات التي تزيد، وأرقام درجات الحرارة، بالإضافة لأرقام عمرك، التي تصير ثقيلةً وأنت تجرّها خلفك.
كنا نلّقط "الخُبّيزة" لستي، في أحد أيام الربيع، وكنتُ أنشغل دائمًا عن باقي المُلَّقطين، بأن أُلاحق الفراش والديدان المكسوّة بوبر ملون، وبقيت هكذا أتبع الحشرات حتى وجدت نفسي في المقبرة، المقبرة الخضراء الممتلأة بالأموات الذين ماتوا قديما لدرجة أن الناس نسوهم ولم يعد أحد يفكر في المجيء إلى هُنا، أفرحني منظرالخُبّيزة التي كانت قد نبتت في كل الفراغات الترابية حول القبور، حزنتُ لمنظر القبور المهجورة.
قالت ستي حين رأتني: لا تُلّقط الخُبّيزة من فوق الأموات. وقالت ما معناه أن هذه الخُبّيزة قد امتصت شيئا من أرواح سُكّان هذه المقبرة، خِفتُ فجلستُ ألعب بالتراب المبلول، وكلما اتسختْ أصابعي كنت أمسحها بملابسي، في البيت وبّختني أمي على أتساخ الملابس، قلت لها: يا أمي لقد لاحقتني أصابع الموتى لأني عبثت بأحلامهم الخضراء الطرية.
كنت أقول أنني لم أعد أفرّق بين موسم الخبيزة مثلًا، ومواسم باقي الحشائش، وصرتُ أسمع، أن الأمهات والجدّات يطبخنَ الملوخية في هذا الوقت من العام، ويطبخن السبانخ في وقت آخر، لكن ما من قوةٍ تمنعك من انتظار موسم الزيتون بالذات، فالأمر متعلق في البلاد في هذه اللحظة.
وأنتم تخرجون في الصباح، رجالًا ونساءً وأطفال، وتذهبون إلى أمهاتكم القديمات، شجرات الزيتون، لتحصدونها، قولوا لنا كلامًا كثيرًا، أرجوكم أن تحكوا لنا حتى عن ألوان أحذيتكم واتساخ أصابعكم وأنتم تقطفون كل حبة زيتون، فأنتم تعرفون جيدًا أن من فقد أُمًا كمن فقد وطنًا، ليس هنالك فرق كبير، أليس كذلك! كُلُّ الفقدان مؤلم.
ما زال طعم الخبيزة التي كانت تصنعها أمي يعطر فمي ، ولا زلت أذكر تماما كل تفصيل لذلك اليوم الذي كنا نلتف فيه أنا وإخوتي حول صحن او اثنين على أكثر تقدير من روائع ما كان يختلط بأنامل أمي ، تلك المرأة الطاعنة في كل شيء جميل ،،
وعلى هدير "البابور " كما كنا نسميه كان " المشاط " يقدم نفسه إلينا بأناقة ، ليس لأنه خليط من أشياء طيبة فحسب ، لكن لأن أنامل وردية كانت تعانقه حتى يصير كما كنا نراه "بأبهى حلة " و "ألذ طعما" !!
يا رجل ، أنت عدت بي ولدا صغيرا رغم أنني على حافة قبري ،، كل التفاصيل والجزئيات التي سردتها لنا في خاطرتك التي أيقظتني فجأة لجمالها وسحر العاطفة التي فيها ، كلها أخذتني وألقت بي على مراسي صباح كنت أعشقه كثيرا ، حيث لا " أنا المسؤول " ولا شيء يشبهه ، بل كا ما هناك عشق حتى النخاع لتلك "الأم" ولتلك الأيام الخالية...
الأم
الجدة
الخبيزة
السبانخ
حبات الزيتون
والتراب المبلول
وسهرة الموتى ، أقصد المقبرة وما تحتضنه من أجساد
كلها مفردات اخترقت الذاكرة وعشعشت في العاطفة واستباحت مشاعرنا هنا !!