كيف حدث إن اجتمعت الخلايا في جنين النبات لتؤلف وردة ؟ وكيف نشأت
في الوردة أعضاء تأنيث وأعضاء تذكير ثم جاء النحل بغريزة لا يدركها لينقل حبوب اللقاح من أعضاء التذكير إلي أعضاء التأنيث فتنشأ بذلك بويضة ملقحة تتحول بعد ذلك إلي بذرة.. ثم تهب الرياح فتذرو البذور في الهواء لتقع على أرض سبخة.. ثم تأتي موجة باردة فيتلبد الجو بالغيوم وتسقط الغيوم مطرا.. وتتسلل قطيرات الماء في الشقوق حتي تدرك الجذور فتسعى في قنواتها الشعرية حتي تدرك السيقان والفروع وتتسلق حتي تبلغ الوردة لتسقيها من جديد وتسقي الأجنة في باطنها وتضربها الشمس فتتفتح حمراء متوهجة ليتساقط عليها النحل من جديد مجذوبا بألوانها لتستمر عمليتا التلقيح والإنجاب وتخرج الثمار والبذور ويأتي موعد القطاف وتمتد الأيدي لتجمع وتقطف وتصل التفاحة إلي مائدتك فتأكل وتشبع وتنسى هذه السلسلة من جنود الغيب التي كانت تعمل في خدمتك منذ مطلع الشمس وأنت لا تدري.. وهي أيضا نفسها
لا تدري؟. إنما هو الله من وراء الكل يأمر العناصر ويدبر كل شيء.
من زرع لك السهول وسفوح الجبال؟ ومن زرع لك الغابات التي نبتت حول خط الاستواء وفيها جوز الهند والأناناس وكل ماتشتهي نفسك؟ ومن جمد الماء في القطبين ليسيل بعد ذلك في الربيع والصيف ليملأ منابع الأنهار لتكون هناك خضرة وبقول وفواكه ومائدة عامرة من كل صنف.. ؟!!
هل رأيت كيف اصطفت حبات الرمان وعناقيد الأعناب في قطوفها مثل أقراط المرجان العقيق.. ؟!
من الواضح أنه كان هناك ترتيب مسبق لكل هذا.. وأنه كان هناك إعداد لهذه المأدبة الكريمة الباذخة.. وعلماء الجيولوجيا.. يقولون إن الأرض كانت في بدايتها غير الأرض.. والجو غير الجو.. وأن الحديد جاء إلي الأرض من جسيمات مقذوفة من نجوم متفجرة في أقصي المجرة في الفضاء البعيد.
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس (25 ـ الحديد).. لقد جاءنا الحديد من السماء بتعدين وتجهيز سماوي عجيب.
وماكان لهذا البأس أن يتم وما كان لتلك الصلابة أن تنشأ لولا تلك الجسيمات وفعلها التكويني في ذرة الحديد لينشأ الحديد المتماسك الذي نعرفه في بأسه وقوته وصلابته.. ولتقوم ترسانات وصناعات للسلاح بلا عدد.
والأرض التي انصدعت إلي مسطحات وصفائح وقارات ومحيطات.. والسموات التي امتدت إلي فضاءات بلا حدود
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47 ـ الذاريات) إشارة إلي الاتساع المستمر بقوي خفية.
والمجرات بالفعل تتباعد منذ نشأتها.. والتجمعات النجمية في سبح مستمر وتفرق محسوب والفضاء يزداد إتساعا.. كأنه بالون يتسع ويتسع ويوشك ان ينفجر..
لا حدود لقدراته.. هو رب هذا الكون وصانعه.
وهذا عالمه المذهل.. العجيب
فماذا عن عالمنا؟ وماذا عن نشأتنا؟
لقد خلق الله أبانا آدم وأمنا حواء في عالم أمثل ثم أهبطنا الله منه بسبب المعصية وغواية الشيطان
وعصا آدم ربه فغوي (121 ـ طه)
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو(123 ـ طه)
فكان هبوطنا من العالم الأمثل إلي عالم الكدح والابتلاء والصراع والعدوات والحروب.. وكان نزولنا إلى أرض الامتحان والمعاناة والحكمة النهائية في هذه المعاناة كانت هي الاختبار والامتحان والفرز والتصنيف حيث تأتي المراتب في النهاية حسب الاستحقاقات.. ونحن نجرب في دنيانا مراحل مشابهة من الفرز والتصنيف في مراحل تعليمنا من الابتدائي إلي الثانوي إلي الجامعة الي الدراسات العليا.. إلي أعلي الدرجات. حيث يكون في إمكانك أن تخترع وتبتكر، ويكون لك حقوق وملكية فكرية تبيعها لمن تشاء بالسعر الذي تشاء وتصبح من حملة جوائز النوبل ومن أصحاب الملايين.
والخلاصة المفيدة أن هذا الكون الذي نعيش فيه له معنى.. وأن الدنيا نموذج افتراضي لآخره سوف تأتي فيما بعد لتكون مثالية في نعيمها مثالية في عقابها.. لمن ينجح في هذا الامتحان.. ولمن يرسب فيه أيضا.
لا ظلم اليوم
هكذا تكون ترنيمة السماوات بما فيها من مخلوقات ساعة النهاية.. لأن التدبير عظيم والعدل مطلق والبناء غاية في الإحكام.. لا ظلم اليوم.. روعة في كل شيء.
ولكنك ترى كل هذا من البداية في ورقة الشجر.. وفي جناح الفراش.. وفي نسج العنكبوت.. وفي الذرة.. وفي المجرة.. وفي صدح البلابل.. وفي تغريد العصافير.. وفي سعي الحية إلي جحرها.. وفي طنين النحلة حول عشها.
وترى هذا في الخلية الحية.. وفي معجزة الجينات.. وفي جزيء البروتين.. وفي بصمة الإصبع.
لقد ذكر الله عزوجل البنان في القرآن الكريم وأنه سوف يعيد صورة البصمة إلى أصلها يوم البعث كما كانت في الدنيا عند صاحبها.
بلي قادرين علي أن نسوي بنانه ونعلم الآن.. ماهي البصمة.. وماوجه الإعجاز فيها.. وكيف لا تتشابه بصمتان من أول الخلق إلي يوم القيامة.. هي لفتة عابرة.. ولكنها تصيب العقل بالقشعريرة.
إن المتكلم عظيم وعليم علما موسوعيا شاملا.. ويتكلم من عتبة صدق مطلق ولانملك إلا الإصغاء والخشوع.. إلى قرآنه.
ونحمد الله عزوجل على أننا ولدنا عربا نعرف لغتنا العربية بالسليقة وندركها تذوقا.. وتلك نعمة لا يدركها الأجنبي لجهله بلغة القرآن وبعده عن أسراره.
إن هناك تدبيرا حكيما مقصودا في كل شيء.. وأنه لا مكان لصدفة.. ولا موقع لعشوائية.. وإن جاءت العشوائية فإنه يكون لها دور في البناء العام.. ويكون لها ضرورة في سياق الأحداث.. ولا تكون ساعتها عشوائية بل تكون تدبيرا مقصودا.
كل ماحدث كان مخططا ومرادا ومقصودا من البداية.. وكانت هناك إرادة وراء كل ماجرى.
وفي بيت النمل نظام وحكم ودستور ولغة قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده لقد عرفت النملة سليمان بالاسم..
كيف.. ؟!
إن ماتقوله النملة في القرآن الكريم يدل علي أنها عالم بأسره برغم صغر حجمها وهوان شأنها.. ويدل على أن علمنا عنها أقل من القليل.
ومايقال عن النملة يقال عن أي حشرة.. كما يقال عن الميكروب والفيروس.. والذرة.. فالعالم كله حي وناطق بطريقته.. واللغز.. هو كيف ندرك طريقته؟.. والعلم بهذه الأسرار.. هو العلم الحق.. وهو العلم الكاشف للغيوب.. وهو العلم الذي يختص به الله ملائكته ورسله.
والخلاصة أننا أجهل بكثير مما نتصور.. وأننا عمي وصم وبكم برغم مانتصور من طلاقة ألسنتنا وعلمنا باللغات ودراستنا للفيزياء والكيمياء والكمبيوتر والبرمجيات.. فما نعلمه قطرة من بحر.. ومانراه مجرد صورة ناقصة ومانسمعه همس.. ومانبصره أشباح.. ومانتصوره أطر وهياكل وعناوين بينما الماهيات والحقائق ألغاز والحروف أسرار والعلم الحقيقي علم قلوب لا يبلغه إلا أفراد ملهمون.
وهو علم لا يكون إلا بإذن رب القلوب
وهو لا يكون إلا لصفوة الصفوة المختارة
وباب هذا العلم هو السجود الكامل
ليس سجود الجسد وحده وإنما سجود القلب وسجود الحواس وسجود العقل وسجود الوعي وإسلام المدارك جميعها لله.
ولاحظ لنا في هذه الدرجة من التجرد ولا أحسبها تأتي اجتهادا وإنما تأتي عطاء وإفاضة من الله لأنبيائه المختارين.. والعلم درجات
وأضعف العلم هو ماتأخذه من كتاب وماتتلقاه من معلم
وأعظم العلماء هم المختارون من ربهم وهم الرسل ومن في درجتهم
وأول مرحلة لنوال هذا العلم هي الأدب.. والحياء.. وعدم رؤية النفس في أي شيء.. ورؤية الله في كل شيء
هل أنت من هذه الصفوة.. وهل يمكن أن تكون لك خصوصية.. وهل يمكن أن تؤتي حظا من الإلهام
تأمل آيات الله ساجدا معجبا مفتونا.. فذلك هو بداية العلم أما نهاية العلم فهو مايقع في قلبك من خشية وفي أفعالك من مراقبة وفي ضميرك من يقظة وفي سلوكك من تقوى.. كما قال موسى عليه السلام وقد أسرع صاعدا الجبل تلبية لنداء ربه.. واليهود يهرولون علي أثره..
هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى(84 ـ طه)
وكما يفعل السفهاء العكس بالمسارعة الى إرضاء نزواتهم والله أحق بأن يرضوه.. يكون حال المؤمنين الأطهار الأبرار على الضد.. لا يشغلهم إلا رضا ربهم وحده.
سل نفسك من الذي تحاول أن ترضيه في حياتك.. هذا هو السؤال المهم
إن الدين أخلاق أولا وأخيرا
وهو سلوك.. وآداب.. ورقي
ومن أجل هذا خلقت الدنيا ومغرياتها ليعرف في النهاية إلى أين تتوجه الهمة وبماذا تتعلق الرغبة.
وماالصعود إلى عرفات والطواف حول الكعبة والرجم والتلبية.. والهرولة بين الصفا والمروة.. إلا رموز لهذا السعي الدءوب.. وماالوضوء والصلاة إلا تطهر واحتشاد لهذه اللحظة.
والسجود ذاته رمز لخشوع الباطن
فهل أنت خاشع؟!
هل أنت ساجد حقا ؟!
فلماذا تسرق وترتشي وتكذب وتغش وتتلون كالحرباء مع الأهواء والمصالح؟ أنت إذن كذاب.. ومصيرك في النهاية.. الإبعاد.. والسقوط.. والهاوية.. الدين ليس شقشقة لسان وانما هو معراج عقل وروح ووجدان وهو تصعيد لكل المواهب الخارقة في الحشوة الإنسانية إلي ذري رفيعة.
والدين ليس أطماعا سياسية وليس وسيلة الي القفز علي الكراسي وصناعة الانقلابات.. وما يحدث من هذا القبيل هو مكر دنيوي.