الهجرة النبوية وفلسفة التغيير - الهجرة النبوية وفلسفة التغيير - الهجرة النبوية وفلسفة التغيير - الهجرة النبوية وفلسفة التغيير - الهجرة النبوية وفلسفة التغيير
الهجرة النبوية وفلسفة التغيير
د. أسامة جمعة الأشقر
لم تكن الهجرة النبوية هروباً من الواقع المظلم الذي عاشته الدعوة الإسلامية في مكة آنذاك، وإنما كانت قراءة موضوعية لهذا الواقع وسلوكاً عملياً يعبّر عن استحالة الاستمرار فيه ، وإلحاح الحاجة إلى تغيير الظروف التي أدت إلى هذا الواقع المظلم ، فحجم الاٍرهاب القرشي كبير جداً ويتصاعد ، وهو إرهاب جسدي وفكري ومحلي وخارجي ، إرهاب يرهق القيادة النبوية من خلال إشغالها بمتابعة الحالات الفردية لهذا الإيذاء ، وقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف من هذا الأمر من خلال فتح باب الهجرة بعيداً إلى الحبشة ، ولكن ذلك كان يؤدي إلى تصفية الدعوة الإسلامية من مؤمنيها الجدد ، ويشكّل استنزافاً لشبكة الدعاة الذين تعتمد عليهم الدعوة في نشر تعاليمها .
لذلك كانت الحاجة ماسّة إلى فتح أفق جديد لهذه الدعوة، واتخاذ قرار صادم وكبير وهو خروج رأس الدعوة وإمامها من مكة إلى المدينة ، بعد سلسلة لقاءات وترتيبات عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع قيادات نافذة في المجتمع المدني ، وهذا الاختيار النبوي للمدينة اختيار ذكي وموضوعي فالمدينة على طريق القوافل القرشية ، وهي قريبة من مكة إلى حد ما ، وبعيدة عن نفوذها المباشر ، كما أنها منفتحة على الأديان السماوية من خلال وجود جماعات يهودية فيها ، كما أنها مكتفية اقتصادياً من خلال توفر الماء والمحاصيل الزراعية ... هذا الأفق الجديد أعطى الانطباع الأكيد بالإيمان بالمستقبل ، وتعدد فرص النجاح ، وكانت الفرصة مواتية لإظهار تجربة الدعوة في هذه المدينة وتعميمها ، حيث تحولت " يثرب " من مدينة هامشية إلى مدينة مؤثرة في صناعة القرار العربي بميزان القبائل ، بل تحولت إلى مركز استقطاب من خلال فرض قانون الهجرة لكل من يعلن إيمانه بمبادئ هذا الدين ، ثم تنظيم هذا الاستقطاب وتأطيره في منظومات عسكرية وعلمية واقتصادية واجتماعية ، ثم بناء نسيج اجتماعي جديد يصهر المكونات المحلية للمدينة النبوية مع المكونات البشرية الوافدة لخلق مجتمع جديد في خصائصه النفسية والشعورية والثقافية متجاوزاً النظام القبليّ السائد في مدن أخرى محيطة .
كانت الهجرة النبوية انتقالاً استراتيجياً من مرحلة الصراع في منطقة مغلقة إلى الصراع في منطقة مفتوحة تتيح للدعوة الجديدة إبراز قيمها ومبادئها وفلسفتها المختلفة عن القائم الموجود آنذاك ، وأعطت الهجرة في تفاصيلها دروساً خطيرة ودقيقة في تأكيد الالتزام بالمبادئ والثبات عليها ، والمناورة على قاعدة الالتزام ، وسلامة التخطيط ، وفهم الظروف وإدارة هذا الفهم عملياً، وتوضيح قضية إيمانية بسلوك عملية وهي قضية التوكل وتكاملها مع السعي وبذل الجهد .
الهجرة النبوية أيقونة معرفية ثرية تحتاج إلى قراءة تتجاوز الأشكال النمطية في القراءة العاطفية ، وهي فرصة لدراسة التحولات الكبرى ولاسيما ونحن في مراحل انتقالية صعبة في ظروف واقعنا العربي الذي يكسر قشرته السياسية باحثاً عن حاضن جديد في ظل هذه الثورات الملتهبة .