أيها المتثائبون آناء الليل وأطراف النهار.
أتعرفونني..؟!
أنا المسجد الثاني في الأرض منذ بدْء الخلق.
أنا القبلة الأولى، ومهوى أفئدة المؤمنين عبر الزمان.
أنا آية كريمة في قرآن ربكم، وعقيدة في صدروكم، معكم في الدم والروح، في الثقافة والجغرافيا، وفي الدين وفي الدنيا، فأنا معكم أينما كنتم، لا خلاص لكم مني؛ إلا إذا كفرتم بدينكم وعروبتكم.
أنا الذي زارني رسولكم الأكرم صلى الله عليه وسلم في الإسراء، وفي ساحاتي أمّ أنبياء الله عليهم السلام على صعيد واحد؛ فاعتمدت حتى قيام الساعة خلافتكم، ومن على صخرتي المشرفة عرج بالمصطفى إلى السماء، ليقترب هناك القربى الجليلة عند سدرة المنتهى.
أنا يا سادة الأرض المستقيلين من مهمتكم..
أنا محطة الأرض المقدسة، وأنا بوابة السماء المشرعة. فكم من نبي زارني وربط دابته على سوري الغربي المغتصب اليوم من بني قريظة؛ في غفلة من قبائلنا الغافية في واحات النفط في الصحراء، وأولئك الراقدين بصمت على ضفاف النيل والرافدين، وقد فقدت ذاكرتهم كلهم بريق السيوف وقرابها، وضبْحَ الخيل وصهيلها.
أنا «الأقصى»
أنا المبارك يا هؤلاء من فوق سبع سموات وما حولي، جاءني أميركم.. أمير المؤمنين الفاروق ماشياً يشق غبار الصحراء على ناقته الأعز من كل مدرعاتكم، فأكرمني وطهرني من كل دنس، وبنى مآذني لتكبر الله في الأرض المباركة، وملأ فضائي عزاً ومجدا، وآنسني بخشوع الخلفاء، ويقين الأتقياء؛ حتى إن أحجاري ما زالت تتذكر لمس أصابعه حين مسها وأفاض عليها من عزة المجاهدين.
أنا «أقصى» صلاح الدين.. والفاتحين
أنا «أقصى» الأنبياء والخلفاء والأيوبيين والعثمانيين والشيشان والقرغيز، وكل العرب وجل العجم.
أنا «أقصى» السادة والأمراء والشعراء والعمال والحمالين في أسواق المدن في الوطن الكبير من طنجة حتى جاكرتا. أنا «أقصى» كل من تعانقت شفتاه لتحتضن شهادة التوحيد.
أنا «أقصاكم»
أربعون عاماُ أو أكثر، وصهيون تدنس ساحاتي المقدسة برجزها، يحفرون تحت أساساتي حتى بت معلقاً في الهواء؛ وشهقة النداء تملأ حلقي صراخاً كل يوم.. بل كل ساعة.. بل كل دقيقة لعل العواصم الغافية تستفيق. فعلى بعد أمتار من سوري الغربي الحزين يبنون ما يسمونه «هيكل الخراب»، وبناؤه عندهم علامة على هدمي.
أسواري تنتظر الخراب، ومآذني تقف على هاوية الدمار، وساحاتي تحرم من جباه الساجدين الموحدين، أما أساساتي فتنخرها الأنفاق والسوائل الكيميائية المذيبة للصخور، حتى أشجاري في الساحات تعرّت جذورها، فبدت معلقة في الهواء في أجواف الأنفاق.
ياسادتي في كل أفق تكبر فيه مئذنة
يا كل من يحرك سبابته بالشهادة، وكل من يجري في عروقه دم العروبة.
أنا على شفير الخراب، فالحقوا بي قبل أن تصمت مآذني عن التكبير، وقبل أن تغدو أسواري صورة سريالية من الركام.
يا أمة المليار.. والمليارات
والله لو كان لكل حجر فيَّ شفة لصرخت في وجوهكم من أنتم؟
عرب أنتم؟!
مضر الكبرى
هل تعرفكم؟
ساسانيون؟!
من نسل أباطرة الروم؟!
هل أنتم من عرق السكسون؟
قولوا: أستحلفكم
وهج الجرح الممتد
على أسواري
يحرقني
يستوطني وجعُ
من أنفاقٍ تنخرني..
تتناسل تحتي.
حتى صحراءِ مشاعركم
من أنتم؟
محرابي
لا يفقه نوم قبائلكم
وشخير ضمائركم
لا يفهم عجز سواعدكم
أو صمت حناجركم
من أنتم؟
قولوا لي..
من أنتم؟
قلت لكم من أنا، ومن أكون، فإن عرفتم من أنتم، فأنا مسجدكم المبارك في الأرض المقدسة.. بمحرابي المفعم بالخشوع، ومآذني الجليلة، وساحاتي العتيقة.. أنا هناك أقف أنتظركم على شرفة الأمل. فهل ستأتون؟ جواب سيسمعه التاريخ منكم ويكتبه عنكم.
وإن تثاقلتكم فستطرحكم سنة التاريخ وتأتي بأمثلَ منكم، ولكني
أرغب أن تأتوني أنتم؛ لأن كل حجر فيّ يحبكم
هذه الكلمة العميقة "فلسطين ما زالت حية" رأيتها مكتوبة على جدران جراج العمارة التي أسكن فيها، وحاولت قدر استطاعتي مدةَ شهر أن أعرف من الذي كتبها ولكني فشلت، وأخيرًا - وبعد شهر - عرفتُ من الذي كتبها! إنها ابنتي ذات الثلاث عشرة سنة!
وكم كنت سعيدًا لهذا الاكتشاف!
إن له دلالة في غاية العمق..
وهي أن فلسطين - فعلاً - ما زالت حية.
إن هذا الجيل الذي عاصر مباحثات السلام، وشاهد مؤامرات البيع للأرض والعرض، ولم ير الجهاد والقتال والصدام، كان يُخشَى عليه أشد الخشية من غياب الرؤية الواضحة، أو نسيان الوطن المسلوب.
لكن تثبت لنا الأيام أن فلسطين - بفضل الله - ما زالت محفورة في قلوب المسلمين، حتى أولئك الأطفال الذين لم يدرسوا إلا مناهج حرصت على عدم وصم اليهود بالأعداء، ودأبت على ترسيخ مفهوم السلام فقط، بصرف النظر عن الظلم والقهر والبطش والإبادة.
إن فلسطين ما زالت حية في قلوب كل المسلمين.
لقد كنتُ الأسبوع الماضي في زيارة مؤتمر كبير للمسلمين في فرنسا، ووجدتُ أن المؤتمر قد أفرد محاضرة عن المسجد الأقصى وفضله وأهمية الحفاظ عليه وعلى القدس وفلسطين، وعلمت من أفراد الجالية أنهم حضروا منذ أسبوعين مؤتمرًا آخر خُصِّص لقضية فلسطين فقط، وجُمِعَت فيه أموال كثيرة لرعاية اليتامى والفقراء هناك، وتبادل فيه الحاضرون الحديث مع أهل غزة عبر الهاتف يطمئنون على أحوالهم، ويشجعونهم ويؤيدونهم.
إن هذا يحدث مع الجالية المسلمة في فرنسا رغم كل التحديات التي تقابل الجالية، ومع كل الهموم الخاصة التي تعيشها، ورغم كل الحملة الصهيونية المضادة، ورغم كل الهجوم على الإسلام، ورغم الوصف المستمر لكل من تعامل مع قضية فلسطين بأنه إرهابي أو مشروع إرهابي.
إن القضية - مع كل خطورتها وصعوبتها - لم تُنزَع من قلوب المسلمين هناك، وما رأيته وسمعته في فرنسا، رأيته وسمعته
كذلك في أمريكا وكندا وإيطاليا وإنجلترا وغيرها من البلاد الغربية.
إن فلسطين ما زالت حية.
إن حصار غزة السابق والحالي قد ألهب مشاعر المسلمين في كل مكان، حتى رأينا الجميع يساهم بكلمة أو موقف أو مال أو دعاء، حتى ساهم في هذا الشعور بعض من لا يصلي أصلاً ولا يصوم!!
إن هذا له دلالة واضحة، وهي أن القضية متغلغلة بعمق في سويداء قلب كل
المسلمين؛ ففلسطين ليست أرضًا عادية.
إنها الأرض الإسلامية التي شهدت الإسلام منذ أيامه الأولى.
إنها الأرض التي احتضنت أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها الأرض التي سار فيها وعاش عليها، ودُفِن في باطنها أغلب الأنبياء والمرسلين.
إنها أرض حطين وعين جالوت.
إنها أرض التاريخ المجيد، والواقع السعيد عمَّا قريب بإذن الله.
إن فلسطين ما زالت حية؛ لأننا ما زلنا نرى فيها رجالاً صامدين، لم يبدِّلوا ولم يغيروا، رؤيتهم واضحة، وعزيمتهم قوية، وآمالهم عريضة، ومنهجهم قرآن وسنة، وطريقهم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفلسطين ما زالت حية؛ لأننا نرى فيها نساء هن أشبه ما يكون بنساء الصحابة، اللاتي اعتدن على رؤية
أبنائهن وأزواجهن وإخوانهن وآبائهن شهداء، فلم يجزعن، ولم ييْئَسن، بل أكملن الطريق بكل حمية، يحركن نفوس الأجيال القادمة لاستكمال مسيرة الإخوة والآباء.
وفلسطين ما زالت حية بأطفالها الصغار الذين علَّموا كبار العالم وشيوخه كيف يكون الصمود والثبات، والذين يدرسون ويتحركون ويروحون ويجيئون - بل
ويلعبون - تحت قصف الطائرات، وضرب المدافع والدبابات.
إن مرور ستين سنة على الاحتلال الصهيوني البغيض لا يجب أبدًا أن يسرِّب اليأس إلى قلوبنا. إننا لا نشك لحظة واحدة في أن اليهود راحلون حتمًا.. إن هذه الأرض المباركة ستظل مباركة إلى يوم القيامة، ولن يدوم الظلم أو يستقر الباطل.
إن النهاية سعيدة بإذن الله.
لكن ما ينبغي أن ندركه أن فلسطين ما هي إلا
اختبار!
إنه اختبار لدرجة الإيمان في قلوبنا.
إن اشتعال قضية فلسطين في قلوبنا أو فتورها لَدلالة على قوة الإيمان في قلوبنا أو ضعفه.
إن الذي يفرط في الأرض المباركة سيفرِّط في أشياء كثيرة أخرى.
والذي ما زال متذكرًا للقضية، عاملاً لنصرتها، ستجده
في نفس الوقت محافظًا على بنود الشريعة الأخرى بكل حرص واهتمام.
إننا نسمع أحيانًا بعض الدعاوى الفارغة من هنا وهناك تنادي بأن نترك هذه القضية جانبًا، ونناقش قضايانا الخاصة الكثيرة في مصر والجزائر والسودان، وفي فرنسا وألمانيا وأمريكا.
إن الذي يفكر بهذه الطريقة ستجده مفرِّطًا في كل قضاياه؛ فالدين لا يتجزأ، والشريعة تفرض على متبعيها أن يأخذوها كاملةً غير منقوصة. وأيُّ تمام وكمال نتوقع إذا فرَّطنا في بقعة من أعظم بقاع الإسلام، وفي ركن من أهم أركان الدين؟!!
إن فلسطين ما زالت حية، ونصرها قريب بإذن الله. إن الإرهاصات المعاصرة جميعها تشير إلى أن لحظة الفرج قد اقتربت.
إن الابتلاء والتمحيص اللذين يشتدان في فلسطين لعلامة واضحة على قرب الخروج من الأزمة، وإن الآلام اليهودية المشاهدة، والهجرة العكسية لليهود من فلسطين إلى أوربا وأمريكا، لخير دليل على أن دولة الظلم في طريقها إلى الانهيار والسقوط.
إن كلامي هذا ليس كلامًا عاطفيًّا محضًا، إنه مؤيَّد بقرآن وسنة، ومؤيد أيضًا بدراسة التاريخ الطويل لهذه البلاد؛ حيث احتُلَّت قبل ذلك مرارًا، وكانت النهاية دومًا سعيدة للمسلمين تعيسة للمجرمين والظالمين، ومؤيَّد كذلك بمشاهدات عديدة في الواقع كما بينَّا، وما لم نذكره من مشاهدات كان أكثر وأكثر.
إن القضية واضحة في اعتقادي ويقيني، والنصر أكاد أراه بعيني، ولكن يبقى التساؤل المهم الذي يجب أن أسأله لنفسي، وأن نسأله جميعًا لنفوسنا: ماذا عملنا لنصرة فلسطين؟!
إن وعد الله لآتٍ، وإن النصر لقادم بإذنه تعالى، لكن المهم ماذا فعلنا لتحقيق هذا الوعد الرباني، ولتقريب هذا النصر الغالي؟!
هذه - أيها الإخوة والأخوات - قضيتنا، وكلٌّ منا يستطيع أن يدلي فيها بدلوه.. فشاركونا بالرأي، وساعدونا بالحركة، وضعوا أيديكم في أيدينا بكلمة أو وجهة نظر، لعلَّ الله عز وجل يرى منَّا صدقًا وإخلاصًا، فنرى ما نشتاق إليه.
وأسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.