أيها العربي الحزين - أيها العربي الحزين - أيها العربي الحزين - أيها العربي الحزين - أيها العربي الحزين
بقلم الدكتور راجح السباتين
أيُّها العَرَبِيُّ الحَزين
عندما تحاصرك الوجوه المريضة، وتجهزُ آلام القهر على صدرك لن تجد لنفسك مهرباً سوى إلى طبيعة الله الجميلة التي تأخذك من حضن هذه الآلام لتنسى في ربوع بلادها ما تراكم على قلبك من نكد أبناء بلادك الذين احترفوا النّكد ولازموا الهمّ، وكان الغمُّ غيوماً لسمائهم البعيدة المتعالية…
وعندما تطبقُ وعود الكذابين على دماغك فتقتل كل جزيئات أحلامك وتخنقُ قلبك لن يراودك، حينها، شعورٌ سوى الرغبة في أن ترفض وتتمرد وتثور وتعمل على إفشالهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا…
أيُّها العربي الحزين، عندما تشعر بأنّ من حولك يضايقون روحك ويؤلمون كلّ ذرة للبقاء فيك وعندما تشعر بأنّ أشباه الأصدقاء وأرباع الرّجال يعملون جاهدين لاستخلاص كلّ ما يمكنه أن ينقذ فؤادك ويمدّك بطاقة المحبّة من جديد. وعندما تشعر، يا رعاك الله، أنّك تحيا بلا هدفٍ بعد أن شتّت اليأسُ كل محيط الأهداف ستشعرُ حينها بضعفك وذوبانك وحاجتك الصّارخة للعودة إلى الله من جديد… وحينَ تهبّ رياحُ اليأس على روحك فكنْ على ثقةٍ بأنها ستجعلك تنسى أوراقك وكتبك وكلماتك وأرقامك وحروفك… تصوّر، يا رعاك الله، أن تحيا من غير الحروف التي هي صنعتُك، وحِرفتك وحاضِرُك ومُستقبلك!! كم تغدو حياة الجاهلية موحشة حينها! ولكم يتقوّى التشاؤم في ذاتك آنذاك، وستعمل على تسلية روحك بأنشودة التشاؤم (قد أفلح المتشائمون، الذين هم في التشاؤم مُغرقون، والذين هم لحقيقة المسرحية فاهمون، وللخروج عن نصوصها عاشقون…).
وبعد؛ فأين تمضي أيها العربي الحزين؟؟ وقد نسجوا من فوق رأسك شباك العنكبوت وحاكوا من حول بيتك شباك العنكبوت، وأغلقوا فمك وقيّدوا عقلك بشباك العنكبوت. أين تمضي؟؟ وأنت ترى الأمل غارقاً في زمان لا نجاة فيه إلا لمن سبح وفق شروط العنكبوت. وستبقى، أيّها العربي الحزين، ما حييت كارهاً للحقيقة، متهرباً من مواجهة الواقع، مختبئاً خلف نظّارتك السوداء لئلا تُعرف هويتك، مُفضِّلاً السّراب على الحقيقة، مؤثراً الرّاحة على التّعب، وسيصعب على عينيك أن تتخيلا شكل النّور بعد أن ألفتا صحبة الظلام هذه العقود الماضيات. وستركض في عالم الأشياء حتى تصل في النهاية إلى "لا شيء". وستبكي كلّما سمعت في مذياعك الصغير حكاية عن الأمل والسعادة وكل طير يطير. وسيصعب عليك هذا الوجود وأنتَ لا تملك إحساساً بالوجود.
أيها العربي الحزين، عندما تخلصُ نفسك إلى نفسك وتشتاقُ روحك إلى روحك وتجلسُ وحدك في لحظات الصّفاء النادرة المعدودة وتجرؤ على مواجهة نفسك ومصارحتها ستدركُ حجم الغربة التي تعيشها وستدركُ ألم المسافة البعيدة الممتدة بينك وبين روحك وستدرك أنّ بينك وبين ذاتك مئات البحار والمحيطات والجبال والأراضين التي تمنعك من مجالستها أو معاتبتها أو حتى الاشتياق إليها.
أيُّها العربي الحزين، ندرك، يا رعاك الله، كم تشتاقُ إلى نفسك العربية الأصيلة التي غابت شمسُها وتركتْكَ في ظلامٍ موحش وبردٍ قارس تتلمس فيه الدفء والحنان فلا تمسك في ختام الأمر إلا بالبرودة والقسوة والجفاء.
أيُها العربي الحزين، أنت بحاجة إلى مصالحة مع ذاتك وعهدٍ مع ربّك تبارك وتعالى، وعودةٍ إلى دينك وفهمٍ صحيح مريح له؛ فلا رافعَ ولا مُعزّ ولا ناصر لك إلا هو، ولنعمّ هو. وأنت تُدرك تماماً أن كلّ ما يحيطُ بك غيرُ آبهٍ بك. ونحنُ ندركُ حجم الغربة التي تعيشها وتتراءى لناظرينا حدود الغابة التي تضمّك ومَن حولك مِن عبدة النّساء والقروش والدنانير البارعين في هندسة المباني الكلامية ورسم لوحات الأمل الوهمية، ذوي الوجوه الصفراء المسودّة الذين يعتبرونك هدفاً متحركاً وفريسة أحلّ الله صيدها…
لقد رأيناك عندما كنت تبكي ولمسنا حرارة دموعك التي حفرتْ على خديَّك الأحافير، ورأيناك كيف لجأتَ إلى المسجد القريب في محاولة منك للنهوض واستجماع القوى من جديد، وكُنّا على علمٍ آنذاك أنّ تركيز الألم فوق وسعك وقُدرتك على التّحمل ورأيناك عندما ركضتَ إلى طاولتك وأقلامك وأوراقك، وسمعنا صوت الجدران تطاردك لتطبق على صدرك ولكنّنا، وللحقيقة، استشعرنا بوارق الأمل تلوح في أفق الحقيقة عندما ركضت نحو الهاتف تنشدُ صوت زوجتك وتسرق الأمل من حروفها وتحيا بما تمدك به من الحبّ والحنان بالرغم من تباعد المسافات وتطاول الأزمان بينكما. واستشعرنا بوارق الأمل من جديد عندما رأيناك تُهاتف بعدها صديقك الواحد الأوحد بشوق ولهفة، ولكم سررنا عندما شهدناه قد غضب وثار وألقى النّصح مذكراً إيَّاك بعهد الأخوّة والتوكّل والمحبة واليقين، وذكّرك بأن مع العُسر يسراً، وبأن التوكل على الله وحده يعلو مهما تطاولت من حوله السُّقف، وبأن المحبة غالبةٌ مهما طالت جولات انتصار الكراهية والشرور.
أيّها العربي الحزين، لا يؤلمك ما تراه في مجتمعنا المتهالك من تقدير وتوقير للحمير، فقد أدرك الناسُ، على ذمة الراوي، بعد مُضيّ العُمر جماليّات التعامل مع الحمير، وثبت لديهم بالتتبع والاستقراء أنّ كبير الأساتذة، سيد العارفين إنما هو شيخ الحمير…
ولا تندم، يا رعاك الله، على ما فاتك في ماضيك القريب من عداوة للحمير وآعمل على تغيير طبعك هذا، وحاول ما حييتَ أن تتكيفَ وتتعايش مع الحمير، فقد ثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أنْ لا قيام ولا بقاء لمجتمع المدنيّة والتحضر إلا بوجود الحمير، حمير الأنس وحمير الجنّ وحمير الحمير. ولتعلم أيّها العربي، أنّك لست في الحزن وحدك؛ فنحنُ شركاؤك. نحنُ كذلك شِئْنا أم أبيْنا؛ فقد غيرّ الدينارُ هويّاتنا وديننا وجنسنا فلا ننتمي إلاّ إليه ولا نعترف إلاّ به ولا نقيم وزناً إلا لمن حمله في جيبه آحاداً وعشرات ومئات وألوفاً… وفوق هذا وذاك فقد طمسَ الدينارُ معالمنا وداست أقدامُ الأعراب رقابنا وغدونا لهذا الذلّ قابلين مستمرئين ولكننا، وللحقيقة، تبدّلنا اسمه بأسماء أخرى وقعّدنا القواعد ورسمنا الثوابت ورفعنا الشعارات للتعامل مع واقع الذل والهوان وأُشربنا في قلوبنا قول القائلين (وأرضهم ما دُمت في أرضهم) و (دارهم ما دُمت في دارهم) وقد برّرنا أفعالنا وتصرفاتنا هذه على أنّها فنٌّ حيوي لازم للتعامل مع الواقع والمحافظة على الرزق وضمان المستقبل الآمِن!!! متناسين أن هنالك رباً استوى على عرشه فوق سمائه السابعة تكفّل بأرزاقنا وأرزاق أبنائنا ووعدنا باليُسر بعد كلِّ عُسر وأمرنا بعزّة النّفس والحفاظ على الكرامة في كلِّ حالٍ ومآلٍ…
ولمّا تناسينا ما تناسينا خرجنا من دائرة وعد الله وطردنا أنفسنا من رحمة الله وصرنا كالبهائم بل أضلّ سبيلا، وكان من الطبيعي عندئذٍ أن تنقلب رؤوسنا وتتحرك ثوابتنا وتتجمّد في قلوبنا النيران، وكان من البديهيّ أن ترتفع المرارة لتكون الأستاذ الأعظم الذي يتفنّن في تلقيننا دروساً جديدة بحروفٍ جديدة وعلى ألواحٍ جديدة بطبشورٍ أسود يُلغي كلّ ألوان المرح ويمسح كلّ وجودٍ للجمال ويهدمُ كلّ أساساتِ الأحلام وتنتشرُ المرارةُ انتشار الهواء لتكون حديث الناس الوحيد…
ولمّا تناسينا ما تناسينا خرجنا من دائرة وعد الله وطردنا أنفسنا من رحمة الله وصرنا كالبهائم بل أضلّ سبيلا، وكان من الطبيعي عندئذٍ أن تنقلب رؤوسنا وتتحرك ثوابتنا وتتجمّد في قلوبنا النيران، وكان من البديهيّ أن ترتفع المرارة لتكون الأستاذ الأعظم الذي يتفنّن في تلقيننا دروساً جديدة بحروفٍ جديدة وعلى ألواحٍ جديدة بطبشورٍ أسود يُلغي كلّ ألوان المرح ويمسح كلّ وجودٍ للجمال ويهدمُ كلّ أساساتِ الأحلام وتنتشرُ المرارةُ انتشار الهواء لتكون حديث الناس الوحيد…