أعيشُ في قريةٍ وادعةٍ هادئة ... قريتي يا سادة عريقةٌ و لكنها وليدة الظروف ... فكل من يُضطهد أو يَفَقِدُ الاستقرار يأتي إليها ... لإنها الملاذ .... في قريتي يا سادة من سُلبت أحلامهم... و حُرقت أفكارهم ... و يُتِمَت أقلامهم .. و ذُبِحَت عقولهم ... يا سادتي .. كل من في قريتي يملك مهداً في رحمٍ أكلته ذئاب مسعورة... فالناس في قريتي بَشَرٌ حالهم مستورة ... الناس في قريتي نَبذوا العُنف .. و هجروا القهر ... و رموا خلف ظهورهم الآلام ... فلقد تعاهدنا أن نعيش بسلام... لنجعل من قريتنا وطنا للأحلام .... لكن كل قرية لا تخلى من اللِئام... فهذا حال الدنيا سالب و موجب... خير و شر ... عدل و ظلم... نور و ظلام.
في قريتي يا سادة بحيرة كبيرة ... صافيه تكاد أن ترى وجهها الأخر... محاطة بالشجر الأخضر من كل الجهات... و هناك أصناف لا تحصى من الزهور و الورود تنبت على ضفافها ... يحلو لكل طيورها أن تغسل وجهها في مائها... و كل الحيوانات تُسَرّح شعرها على مرآتها كل صباح... حتى الشمس لا تعترفُ بطلعة يومها قبل أن يطفو على سطحها و يعبر ضفافها... بحيرتي يا سادة لا تنجبُ الأسماك.. بحيرتي صافية هادئة كما هي قريتي... و كلنا في قريتي نقدس هدوئها.. فهي عندنا كما الصلاة.
في قريتي يا سادتي صيّاد سمك عجوز يدعى " إِسفين " .. يسكن في أطراف القرية وحيداً بعيداً .. أتى إلينا من أعماق البحر الغدّار.. أو ربما من مكبِ نفاياتٍ منفي .. لكننا لا نأبه لماضيه فهو أكيد إنسان ... و في النهاية كل واحد فينا و له معاناة...
" إسفين " ذو رائحة نتنة و ثياب رثة... شعره منكوش و لحيته فَضَّهْ ... أخبرناهُ مراراً أن بحيرتنا عاقر لا تنجب أسماكا... إنما بحيرتنا مَحَجٌّ للعشاق ... " إسفين أطرش لا يسمع " ... حاول مرارا تكرارا أن يفسد صفوَ الماء.. و هو يعلم لا اسماك في رحم الماء و لكن... يحرك قدميه فيها فيعكر صفو بحيرتنا ... فيلقى الصنارة حيناً و ينسج خيوط شبكته المتهالكة... فيحاصر كثبان الأوهام... و يعود " إسفين " كل مساء محمل بأكياس الخيبة... و ينام ليله جوعان ... هو يتغذى من خير القرية لكنه مُصِرٌّ على صيد الأوهام.
في قريتنا الناس اتعظوا قَبْلاً.. مما ذاقوه من الأحزان ... فالماء الصافي حين تعكره لن يأتي بالسمك لنقتات... لكن " إسفين " لا يقنع.. أو ربما " إسفين " جعلها عادة لكي يضع بين ضلوعنا الأقدام..
علماً بأن....
" إسفين " عجوز حقود منافق لا نراه نهاراً إلا ضاحكاً و للبحيرة حارساً... و في الليل تنقلب الآية .. " إسفين " مَلِك الوِشاية.. يُلَوِثُ جو قريتنا و يعكّر صفو بحيرتنا..... و هو كذلك ينادي بعراقة قريتنا....!!!