المرونة في مقامة المكرونة - المرونة في مقامة المكرونة - المرونة في مقامة المكرونة - المرونة في مقامة المكرونة - المرونة في مقامة المكرونة
المرونة في مقامة المكرونة
قال أبو الطيب الوائلي:
جادت الأيام بمنائحها، و سادت الأحلام بمدائحها، و كرُمت النفوسُ بهواها، و علَتْ القلوب بفحواها، و آتتْ الأحوال العطايا، و احتوتِ الزوايا الخبايا، و كنتُ من تلك في محضَرٍ، و في هاتيكَ في منظرٍ، فكنتُ في سَيْرةِ الأقدام، و سِيْرَةِ الإقدام، أرْقُبُ الطعام حيثُ الجوع، و أرغبُ المنام إذ الهجوع، فوقفتُ على محلِّ طعام، مليءٍ بالأكارم و الطغام، فقلَّبْتُ العين على ما يُشتهى، و طلبتُ الزَّيْن غايةَ المنتهى، و لم أظفرْ بِعُودِ ثُقاب، و لا بصنْعَةِ ذاتِ نِقاب.
فيئستُ و الحالُ تعيس، و حزُنتُ الشأن بئيس، فانقلبتُ قافلاً، و انصرفتُ آيلاً، فليس كشأن طعام البيت أَكْلٌ، و ليس للمرءِ غير أهله أهلٌ، و إن أشبعه طعام الوجود، و آنَسَه قريبٌ ودود. فرمقني عن البُعْدِ رجلاً شَهما، أدركاً ما بِيْ فَهماً، فأضافني في داره، و خصَّني بأسراره، فأكرمَ و أنعَم، و أجادَ و أنغَمَ، فشكرتُ الضيافة، و رُمتُه بالأنافة.
فقال لي: ما كان طعامي في محلِّ نفسك، و ما كان حالُه في حديث همسك؟. فقلتُ: أخا البَشَر، و أبا البُشَر، ما أنت إلا كريم مُصطفى، و سيدٌ مُقتفى، أكرمتَ فأخجلتَ، و أقدمتَ فأوجلتَ، فما حرفي في المدحِ إلا ذمٌ، و ما وصفي في الثناءِ إلا نَقْمٌ، فالسكوت حمدٌ عند العِي، و صمتي حكمةٌ و الذاتُ في نعي.
فقال: إِيْهاً؛ فهاتِ نعتَك، و ذُدْ مقتَك، فأنا مستمعٌ لوصفكَ، و مستمتع بحرفكَ. فقلتُ: حرصك يا سيدُ يُنبئ عن معرفة، و عنايتكَ محترفة، فما أنتَ إلا خبيرٌ بصيرٌ، و محنَّك نحريرٌ. فمن أنتَ قبلُ، و بالجوابِ أنت أهلُ؟
فكشف لِثامَه، فأبان مقامه، فإذا هو صديقٌ تقادَم به عهدُ البُعد، حتى عجز كلانا عن العَد. فتعانقنا طويلاً، و دعونا و بيلا، و بكينا فأغرقنا القمر، و تباكينا فأزعجْنا الفِطْرَ، و ابتسمنا و ضحكنا، و سكتنا فهلكنا، فكنا كنديمين سَكْرانَيْن، و خليلين متنكرين، فهول مُصاب اللقاء، حجبَ صفاء النقاء، فلا مثلنا مرَّ على الأرضِ، حينها و لا طفقَ طولاً و العرض، فرُحماك ربُّ.
فقلتُ بعد أن هدأتُ، و انتهيتُ بعد أن بدأتُ، اسمع يا صاحبي الجميل، و يا خليل الروح النبيل، إنك أكرمتَ في التضياف، و أمتعتَ بالألطافِ، فأطعمتني خيرَ الطعام، و وقدمتني في خير مقام. فطعامك لا مثيل يُشبهه، و لا مزاحمَ يوجهه، إن خيرَ ما طَعِمَتْهُ نفسي، و ما ذُقته فوق ثرى رمسي، هي المسماة بالمكرونة، المصونة من الحرونة، و الطعام الفائق، سيدُ أطعمة الحقائق، مهما رُمْتَها تجدها السيدة، و مهما قصدتها لَقيتها المؤبَّدة، تدوم بدوام الناس، فغيرُها زيفٌ و هي ألماس.
و خذ يا صاحِ مني خبراً، لا تكاد تجد له في الطروس ذكراً، فإنني ذوَّاق لهذا النوع الجميل، و عاشق لهذا الطعام الكميل، و لا أظنُّ طعاماً يُشبع غرور جوعي سواه، و لا أكلاً يسدُّ فراغ اشتهائي إلاه.
فقال لي: هاتِ ما لديك، فأنا مستمع بين يديك، و إني لموعود بجديد ظريف، و تليد طريف. فقلتُ: و أيَّ اعتراءٍ في شكٍ آتيك، فإنَّ المذمَّةَ أُوْلِيْك. فخذ مني أجودَ ما به أفوه، ففي مفازاتِ المكرونة نفسي تتوه:
أجود أنواع المكرونة الأعاظم، تلك المسماة بالخواتم، المجمَّلةِ بالخطوط، و المكمَّلةِ بالضبوط، فلا شيءَ يعلوها، و لا نوع يسموها، هي الرأس الأكبر، و النوع الأظفر، تُشبِعُ و تُمتِع، و تُرْغِبُ و تدْفَع، خفيفةٌ لذيذة، من الجوع مُعيذة. و عليكَ بها لا شيءَ معها، سوى بهارات تُبدعها، فلا لحمَ مُصاحبٌ، و خُضرواتٌ تواكبُ، و لا نوعَ آخرَ متطفِّلٌ، و لا غريباً يتخبَّلُ.
و أكمل أحوالها أن تكون مسلوقةً، فلا بالصواني مخنوقة، و لا بغير ذا مقتولة، لأنها فريدة مفتولة. و ليكن معها قليلٌ من الماءِ، فماؤها سر النماء. و إن أتتْ جافَّةً مُجدبة، فاَدْرِ بأنها مُنفِّرَةٌ متعبة.
و تليها تلك الطويلة، المتغنجة الجميلة، ذاتِ الإمتاع و الإشباع، و سيدة الإقناعِ للجياع، و من طريف حالها، و ظريف أحوالها، أنك تمتصها مصَّاً، فلا زيادةً و لا نقصاً، كحال الأطفالِ فيها، و الكبارِ من عاقليها. و احرصْ أن تكون كما الأولى، بماء تسبح فيه، فلا جفافَ تُهديه. فالجفافُ لذيذ حين يكون مُتقَناً، و لا أعرفُ سوى خالةٍ لي مُتقِنَاً. و أحسن ما تكون في صوانيها، مع مصاحباتٍ تُواتيها.
و يليها تابعاً في الدرجات استفالاً، أنواعٌ بواقٍ لا يُقام بها احتفالا، فهي لسدِّ الحاجة و الاضطرار، كحال أكل الميتةِ لمُقارِبِ الموتِ دون اختيار، كتلك المُسماةِ بالأكواعِ، أو الخواتمِ الصلعاءِ ذات الأوجاع، أو التي تُنعتُ تشبيها بالأنابيب، صاحبة الإيجاع و الألاعيب، فإنها يست بشيء، و هي للجائع كشمس من فيء. فلا إكرام للضيفِ فيها، و لا محمدة لمن يشتهيها، و إكراماً للمنتجِ، و إيناساً للمُهَج، فلتكن في الإعداد مع الباشميل، أو الجُبْنَةِ عامَّةً الكُل، و مع الخُضارِ مخلوطة، أو اللحم المفروم مبسوطة، و غير ذا، فلا يُحتذى.
و خذ مني أيا صديقي، و اعتبرْ تجربنتي يا رفيقي، فإياك و الأنواع المُخلَّطَة، فإنها للمتعة مثبِّطة، فالتفريقُ تمييز، و الخلْطُ تعجيز، فلكل نوعٍ طعمه الخاصُّ، و جمالهُ الناصُّ، فإن خلطتَ أضعتَ، و إن فرقْتَ صنعتَ.
و احذر أُخرى، من جريمةٍ نُكرى، تلك التي تُنعتُ بالأندوم، وجبةُ من اللذةَ لا يروم، فليست طعاماً طُعْماً، و لا أكلاً حتماً، فهي كقراراتِ الرؤساءِ تسكيتاً، و كالبندولاتِ تربيتاً، لا تسُدُّ جُوعاً، و لا تملأُ ينبوعاً، ثم إن شأنها شأن عجيبٌ، و أمرها أمرٌ غريبٌ، فأصلها كان أن بني أندونيس، القاطنين في الشرقيِّ دون تلبيس، رأوا الإقبال على المكرونة المصونة، من النفوس الممنونة، فاعتراهم الحسَدُ، و علاهمُ الحِقْدُ، فأتوا ودايَ مدينَ يرعون، تاركينَ واديَ طُوى الصدقِ يستظهرون، فاختلقوا هذه الخيوط، و اصطنعوا السِلكَ المنوط.
و روَّجَ لها بعض العربِ، رائماً بفعلته كل العطَبِ، و قام بالتسويقِ و الإعلان، مُعلناً التخريقَ ببيان، فأقبل الناسُ مُصدِّقِيْن، و أقدموا مؤمنين، و اشتروا كثيراً، و جاعوا كبيراً، فلا هي سدَّت الجَوعة، و لا هي آتت الشِّبْعة، و أتقنوا التزوير، و أبدعوا في التنكير، فراموها بأنواعٍ و أطعام، فمرةً بالخُضارِ الجِسام، و أُخرى بالدجاج، و ثالثة بالمشويِّ ذي الاعوجاج، و كلها زيفٌ و نُكْرٌ، فلتكن من ذلك على ذُكْرٍ.
و يُنبيكَ عن صدقِ ما أقول، و أحقِيَّةِ ما له أصول، أن المُزاحمَ المنافِسَ، و المسابِقَ المعافِسَ، لهذه الأندومياتِ الجديدة، و الأطعوماتِ اللديدة، قد كثُرَ وامتازَ، و أسقطَ الأولَ بإنجاز، و أما المكرونة فبقيَتْ في مقام السَّبْقِ، و من كان منافساً بِمَزْق، رِيْمَ قَطعاً بالأوصال، و قُصِدَ نزعاً بالأغلال.
و إليكَ في هذا قصةٌ هي أصلٌ، و نحن للأصولِ أهلٌ، فقد أرسلَ إليَّ صديقٌ طائفيٌ بما مفادُه، و قد حُلَّ بذلك إسعادُه، يقولُ و يجول، و قوله في غيابٍ و أُفُول: روينا بإسنادنا الطائفي في " مسند الأندونوسيين" موقوفاً:" الأندومي طعامُ طُعم، و غذاءُ بطن"، و هو في ذلك مُحاكٍ مُلاكٍ، و قولُه من العاطفةِ شَاكٍ.
فقدتُه ردَّاً، و أوْرَدْتُه سَدَّاً، فقلتُ مجيباً، و كنتُ مصيباً: رُوِّيْنا بسندٍ صحَّ رجاله و بان جلالُه واتَّسَع مجالُه في صحيح أبِيْنا، قدَّس الله سره، أنه قال:" من تأندمَ تندَّم، فليسَ طعاماً مُسمِناً، و ليس أكلاً مُنْعِماً، و إنما هو عبثُ أهل المشرق المُخرَِّق، فمن أكله فهو ذائقٌ طعاماً مزيفاً".
قال الشارحُ: قوله : " تأنْدَمَ" : أي أكل الأندومي. و الأندومي طعام صنعته الأندنوس، يُحاكون فيه طعاما في بلاد العرب، أصله من أرض الغرب، يُسمى " المكرونة"، جمع الله فيها اللذة و الطعم و الخفَّة، و من شدة ما أصاب أهل تلك الأرض من غَيْرَةٍ اختلقوا هذا الطعام، الذي يُؤْنَفُ منه. و لا أدري كيف تستسيغه النفوس فتأكله. و ما أراه أنه يجب على وليِّ أمر الناس أن يضرب عُنَقَ من يُدخله البلاد فيبيعه، و يأمر بسجن الآكلين، لأنه طعام ثبتَ عدم نفعه، فهو نافخٌ للبطن، نافٍ للفِطَن، غرَّارٌ للكرْشِ، جرَّارٌ للهرْشِ، خدَّاعٌ للبصَر، لمَّاعٌ للمُصُر.
ثم رامَ كلامي ناقضاً، و لحرفي مناهضاً، فردَّ قائلاً، رداً مائلا: "حاشية أبو أصيل الطائفي القحطاني على شرح الأندومية للوائلي: في علم الأصول الذوقية" :أما قول الشارح ( يُؤْنَفُ منه) فهو خاص ببعض الأفراد : كما في أنفته صلى الله عليه وسلم من الضب.
وقول الشارح (نافخٌ للبطن، نافٍ للفِطَن، غرَّارٌ للكرْشِ، جرَّارٌ للهرْشِ، خدَّاعٌ للبصَر، لمَّاعٌ للمُصُر) فيا ليت شعري من أين أتى بهذا: وهو لم يقم عليه برهان من طب الأبدان أو تعليل عام من علم الأديان: وإنما هو ميل من الشارح-عفا الله عنه- إلى عدم أكل الأندومي: وذلك لآفة في عقله من تلبس الجن به في صباه كما حُكِيَ عنه.
وفي ظننا أنه أخذ تصور ذلك: من نقولات بعض الوضَّاعين ومن منتديات أهل عصرنا بغير سند معلوم .
والخلاصة يا ليت أن الشارح : اكتفى بأنفته الخاصة من الأندومي ولم يتعسف ويتكلف كل هذه الأوصاف التي يحتمل بطلانها خصوصا أننا لم نعلم مصدرا طبيا موثوقا به يثبت لنا تلك الأوصاف_وقد بسطنا ذلك في شرحنا على متن المكرونية.
فقال صاحبي: ويحكما، و كيف أجبتَ، و هل التزمتَ الصمتَ؟. فقلتُ: أُمي الثكلى بي، و أبي المفجوع بي، لقد رُمتُه بجواب صوابٍ، مقبولٍ عند ذوي الألباب. فقال: هِيْهْ؛ وهكذا أعرفك، فللحكمة ما أغرَفَك. قلتُ: فأجبتُه بأصلِ كتابٍ، كان إشارةً لحديثي معكَ بلا ارتياب، فقلتُ: "معاقد الفصول في بيان مراصد الأفول بما في حاشية الطائفي من اللا مقبول".
قرأتُ ما حشَّاه الطائفيُ على مكتوبتي في طعام الهامشيين " الأندومي" أجلَّ الله حروفي منها، فرأيته خبَطَ خبْطاً، و تركَ وسْطاً، فرأيت أن أكتب رداً يصنع سداً، و أسطِّرُ حرفاً يجلبُ حتفاً، حيث بنى كلامه على خللٍ، و حلاه بأرخصِ حُلَلٍ.
قوله: "فهو خاص ببعض الأفراد : كما في أنفته صلى الله عليه وسلم من الضب".
فيقال: هذا تعليلٌ بلا وجه، فلا قياسَ به هنا، لاختلاف الأمر من جهتين: الأولى: أن الضبَّ طعامٌ، و الأندومي ليست كذلك، فهي زيفُ للطعام، وهنا لم أتفق و إياه، فبطُل احتجاجه. الثانية: أن الأفعال النبوية منها ما له وجه تشريعي، ومنها ما له وجهُ إنساني، و الاحتجاج بالتشريعي حينما يوافقه نصٌ، و هنا فعل إنساني، عائد إلى الطباع، فلا احتجاج بالطباع.
قوله: "فيا ليت شعري من أين أتى بهذا: وهو لم يقم عليه برهان من طب الأبدان أو تعليل عام من علم الأديان: وإنما هو ميل من الشارح-عفا الله عنه- إلى عدم أكل الأندومي: وذلك لآفة في عقله من تلبس الجن به في صباه كما حُكِيَ عنه".
فيقال: المعهود أن أهل تلك البلاد فيه من البلادة ما لا يجهله أحد، و الشاذ منهم كأهل الجابان و الصين و الماليزيا مٌستثنى، فلم نعهد من هؤلاء إلا إتقانا لهذه الآفة، لذلك فلا تجدهم لهم أثراً في صناعة بلادهم و تغيير أحوالهم إلا بملءِ البطون بمثل هذه. و أيضاً فإنَّها شبيهة بهم، فهم فيهم القِصَرُ و فيهم النحافة، و أندوميتهم كذلك، فهم يأكلونها و هي تأكل عقولهم.
و أما ما زعمه من آفةٍ في عقلي بسبب تلبُّسِ الجن، فإن ذلك على غير الصحة، فالذي اتفق عليه كل من عرفني أنني تلبَّسْتُ بأحد الجانِّ حتى تأنْسَنَ.
قوله: " وفي ظننا أنه أخذ تصور ذلك: من نقولات بعض الوضَّاعين ومن منتديات أهل عصرنا بغير سند معلوم. والخلاصة يا ليت أن الشارح : اكتفى بأنفته الخاصة من الأندومي ولم يتعسف ويتكلف كل هذه الأوصاف التي يحتمل بطلانها خصوصا أننا لم نعلم مصدرا طبيا موثوقا به يثبت لنا تلك الأوصاف".
يُجاب عنه: بأن هذا يحتاج إلى دليل الإثبات منه، و لا دليل عنده، و هيهات له بذلك، حتى في أحلامه، فإنَّ هذه دعوى عريضة، كما هي دعاوي أبناءِ عصره. و لم أقف على من تكلم عنها بمثل ما ذكر، و إنما هذا مني أنا، فلم أعتمد على أحد، و من خلال ما خبَرْتُه، و برهاني في ذلك أنني أرى أولادي، نسأل الله حُسن العطاء، مَبْلِيِّيْن بهذا الشيء، و أراهم يتهافتون تهافتاً جنونياً، و إذا أكلوه و انتهوا، قالوا جملتهم المشهورة: ماما جوعانين. وهذا بذاته دليل على أنها كسرابٍ في صحراء، توهم الآكل أنه يشبع فإذا هو يبلع.
قوله: "وقد بسطنا ذلك في شرحنا على متن المكرونية"
فيقال: كيف ذلك، و أنت لا تعرف المكرونة إلا اسماً؟ و لست من هواة طبخها و لا أكلها، فأنت لم تأكل منها إذْ جئتني إلا إرضاءً لواجب الضيافة، و إلا فأكلك كأكل النائم الحالم. و أيضا، ما هذا المتن، أرجو ألا يكون المقصود به مقامتي المذكورة سابقاً، وما أظن إلا هيَ. فهذه نتيجة الأندمة، لا يُمكن لصحابها إلا أن يعتمد على من تمكرن.
فبكل دلائل العقول و النقول، و براهين الفروع و الأصول، ثبت للمكرونة مقام العلوِّ، و صحَّ له عرشُ السموِّ، و تساقَط أمامها كل طعامٍ، و تهاوى عند لذتها كل مُرام، فأدرك شأنها إكراماً، فالمكرونُ خيرٌ طعاماً.
فقال صاحبي: أوِّهْ، أوَ أنتَ خبيرٌ بالطعامِ، عليمُ اللسانِ بذيَّاك المقام؟. قلتُ: و هل الطعام إلا قِوام العقلِ، و مقامُ قيامُ الأصلِ، فبدون الطعام المجوَّد، و بِلا الأكل الممجَّد، تكون العقول هزيلة، و الأجسام كليلة، و الأفهام عاطلة، و الأفكارُ صائلة. فبناءُ الأجساد بجيِّد الأكلِ، و بناءُ العقولِ بأجوَدِ الأصلِ، و الأصلُ جسدٌ صحيح، و علمٌ رجيح، و الأكلُ مقيمٌ بعدلٍ، و دائمٌ بأصلٍ.
فقال: وما غيرُ ذي لديك، فديتُ روحك بسعديك؟. فقلتُ: الكثيرُ الطيِّب، و اللذيذ الصيِّب، فالأصلُ المعقود به الاعتبار، و الأساس المبنيُّ عليه الاختيار، أن من لذَّ أكلُه، و ما أمتَعُ ظِلُّه، و أشبَعَ البطنَ، و نمَّى الفِطَنَ، فهو الجيِّد المقبول، و هو المكرَّمُ المأهول.
فرامني شاكراً، و لجميل كلامي ذاكراً، و أبان كاشفاً، للمخفي واصفاً، قائلاً: رأيتُك وجهكَ غير مرتاحٍ لطعام المطعَم، و رأيتُك غيرَ آبِهٍ بالمُطعَم، فقصدتُ البيتَ، و فكأنني أحييتُ الميتَ، طالباً صُمع طعامك المفضَّل، لأنني ذاكرٌ حالكَ الأمثل، فنلتُ استغرابَ الزوجة، و ظفرتُ باللومة المَزجة، فما عهدتني مكرونياً، و إنما تعرفني أنودمياً، و عهد الله عليَّ، ووعدهُ القاضي لي و عليَّ، لا أكلتُ الأندومِ، و لو بِتُّ في جوعٍ يدوم، فقد كرَّهتَنِيْها، و أبعدتَ شأنها قاصيها و دانيها.
فابتسمتُ و ضحكتُ، فقد تابَ صاحبي فَفَكُهْتُ، و نصيحتي لكل من قرأ الحكاية، و أتقن مقاصد المقامة بعناية، أن يتوب من الطعام اللا طُعْم، و ينوءُ مستغفراً مما في البطن من إثم، و ليظفر بأكل مفيد، و طعام مجيد، و السلامُ تحية، و الختامُ مطيَّة.