...ودمع لا يكفكف يا دمشق !!! - ...ودمع لا يكفكف يا دمشق !!! - ...ودمع لا يكفكف يا دمشق !!! - ...ودمع لا يكفكف يا دمشق !!! - ...ودمع لا يكفكف يا دمشق !!!
دمشق .
د. أحمد نوفل
1- إيه يا دمشق.
دمشق حاضرة الشام أو الديار السورية. ودمشق الشام وكل سوريا حاضرة في الأذهان بقوة هذه الأيام، لا تكاد تغيب عن بؤرة الاهتمام، فمنذ بدأ الحراك الجماهيري، أو الثورة الشعبية السلمية المطالبة بالحرية، والدم الراعف النازف لم يتوقف سيله، وكل جمعة تتجدد الدعوة إلى الحراك ومزيد منه حتى تحقيق المطالب الشعبية العادلة فالتراجع أخطر وأكثر تكلفة «وأبهظ» ثمناً من التقدم. ويبدو أن النظام بدواعي استمرارية السياسات القديمة، وعدم القدرة على الانخلاع منها والكف عنها، واصَل الأساليب إياها، وهي قد أصبحت خارج المعقول وأصبح التكتم عليها والسكوت عنها «والتطنيش» أصبح أمراً معيباً غير أخلاقي وغير مقبول. ومن دواعيهم، أو لعله، ما يزعم من هيبة الدولة وعدم تجرئ الطغام والرغام على تحدي النظام. وأزعم أن النتيجة معكوسة تماماً، فما من مهيب مع الحب، قدر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من بعده الصاحبان رضي الله عنهما، ومع هذا كان الدم عندهم أخطر شيء والحفاظ عليه أوجب شيء. بل إن ابنك في بيتك متى ضربته كسرت حاجز المحبة والاحترام والتوقير والهيبة بينك وبينه. فكيف إذا ضربته بالنار؟ كيف إذا دككت قراه بالدبابات والمدفعية؟ كيف إذا لاحقت جرحاه في المستشفيات؟ إن النتائج التي حصّلها النظام في سوريا في ما أزعم انتهاء الرصيد من الاحترام من القلوب. وغسل اليد من أي رجاء في إصلاح أو إجراءات ديمقراطية أو قوانين وتشريعات إصلاحية بعد كل هذا السيل من الدماء والمفقودين، وبعد كل ألوان التعذيب والاعتقال التي عاشها الشعب وذاقها وذاق مرارتها الكاوية!
ولما كانت أحوال العرب حاضرة دائماً في الذهن، و»لسان العرب» حاضر عتيد في ملتقط أصابعي، لا يكاد يغيب، فإني حدثت نفسي أن أرى ماذا قال «اللسان» عن دمشق، وأي خواطر ستخطر مما قال؟ ثم طفقت أقلب في بعض الكتب التي تكلمت عن دمشق، فكانت هذه الورقات أو هذه الحلقات، عنونتها بدمشق، ولم أشأ أن أجعلها تحت عنوان قصيدة شوقي: «نكبة دمشق». فلعلها لا تكون نكبة، بل تكون بدء الفرج بعد الشدة والحرج!
وعلى ذكر قصيدة شوقي: نكبة دمشق وهي من أروع ما قيل من مصابها، وإن لم ترق القصيدة «تماماً» أستاذنا الكبير الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، فله عليها تعليق لعلّي في هذه الحلقة أو في حلقة تالية أعرج عليه لتقف على نقد أدبي وناقد من طراز رفيع. يرحمه الله.. أعني الطنطاوي وشوقي.
أقول: العجيب أن قصيدة شوقي في دمشق (في ديوانه) جاءت بعد قصيدته في مخاطبة النيل، وقصيدته في الموطنين والمصابين «قافيّة» أي قافيتها الشعرية حرف القاف. وهي وتلك في الديوان جاءتا متجاورتين، فكأنّها إشارة إلى وحدة المصاب، ثم إشارة إلى وحدة القطرين. أما قصيدة النيل وخطابه فجاء مطلعها شهيراً رقيقاً مثيراً: من أي عهد في القرى تتدفق..
2- دمشق في كتابات علي الطنطاوي.
ربما لا أعرف أحداً أبداً أحب بلداً، كما أحب علي الطنطاوي رحمه الله بلده دمشق. ولم أسمع من أحد يتحدث عن دمشق بلا كلل ولا ملل مثله، ومثل الشيخ شعيب الأرناؤوط.
وللشيخ علي الطنطاوي كتاب عن دمشق سأقتطف لكم منه في حلقة تالية بعض مقتطفات، إن شاء الله، ولكني سأقف بكم عند منعطف: «ذكريات» لعلي الطنطاوي الذي سهر عليه وأشرف على طباعته حفيده ابن بنته مجاهد مأمون ديرانية.
وكم كنا نسعد بصحبة الشيخ علي إذ يحل في عمان قادماً من مكة.. تلك أيام. على كل حال. نعود إلى كلامه العذب الجميل يغرد كعصفور في خميلة جميلة اسمها دمشق. أو عاشق يتغنى بمفاتن محبوبته مدينته التي فيها أجمل ذكرياته التي يحملها في قلبه وعقله وعلى عاتقه كما يقول هو، استمع إليه يقول:
«دمشق التي عرفتها وأنا صغير، ليست دمشق التي نراها الآن. تبدلت دورها، وحاراتها، وأزياء أهلها، وكثير من أعرافهم وأوضاعهم، ودخل الحديث عنها في باب التاريخ.
وفي الدنيا اليوم مدن كثيرة موغلة في القدم، حتى إن التاريخ نفسه لم يدرك ولادتها، ولكن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة في الدنيا. وفي الدنيا مدن كثيرة بارعة الجمال، (ولكن دمشق في نظر أهلها على الأقل) أجمل مدن الدنيا. أو كانت أجمل بلاد الدنيا، فأفسدنا نحن أهلَها جمالَها. أدهشتْ غُوطتها العرب لما رأوها، فأنطقت شعراءهم بروائع البيان وخوالد القصائد. فأين اليوم الغوطة؟ الغوطة الغربية قطعنا أشجارها وقلعنا أورادها وأزهارها، ورمينا فوق رأسها الحجارة والإسمنت، فقتلناها خنقاً ودفناها حية، وأقمنا عليها بيوتاً طبقاتها صناديق وعلب لسردين البشر جعلناها قبوراً (لها). تبدلت دمشق حتى جوها. كان إخواننا من الحجاز والعراق يصيّفون في دمشق، وما كنا نحن أهل دمشق نعرف الانتقال في الصيف إلى الجبال. فما الذي غيّرها؟ من ألهب هواءها وسد مسارب النسيم الناعش إليها؟ نحن الذين قطعوا أشجارها. الناس يزرعون ونحن نقلع. جناية جنيناها على دمشق من عشرات مضت من السنين حتى ضاع الجاني، وقيدت القضية جناية ضد مجهول.»
وكلام الأستاذ لا يمل منه ولكن نقف عند هذا المنعطف أو هذا الحد ونواصل في حلقة قادمة كلامه. لكن نعلق الآن تعليقاً خاطفاً.
أما أن دمشق كانت على هذا القدر من الجمال في شبابها وريعان عمرها فنعم، ولقد خلد الشعر والأدب والقصص والصور الملتقطة لها قديماً مثل هذا الجمال، لكن رحل كل ذلك وحل محله الزحام ودخان السيارات والتلوث وغابات الإسمنت، وما ذاك إلا من صنع أيدي البشر كما قال يرحمه الله، ومن فساد السياسات وسوئها وعقمها وعشوائيتها وانعدام التخطيط، والولع بتضخيم العواصم بحيث تصبح كل عاصمة ربع سكان الدولة، فيستغرقك أقل مشوار ساعة أو ساعتين من الزمان، وأربعاً في القاهرة مثلاً.
كل هذا من سوء التخطيط ومن التخبيط والتخليط والفوضى وترك الأمور على عواهنها، هذا إن لم يكن التدمير مبرمجاً، والفوضى ممنهجة والعشوائية متقصدة. وقد تعجبون وحق لكم، فمن يخْرب بيته بيده؟ أزعم أن ما كان يجري في مصر من تخريب، وربما غيرها، لم يكن عشوائياً، وإنما كان ممنهجاً مبرمجاً.
هذا في الوقت الذي تطوف فيه «أوتاوا» عاصمة كندا، تطوفها من طرفها إلى طرفها في نصف ساعة. (على زماننا!)
وهل فاتني أن أنبه إلى البيان الراقي في كتابة الأستاذ الطنطاوي؟
3- دمشق في لسان العرب.
قال في «لسان العرب» في معنى «دمشق»: «دمْشَق: عمله: أسرع فيه. ودمشَق الشيء: زيّنه. والدّمشق: الناقة الخفيفة السريعة. وأنشد أبو عبيدة قول الزفيان:
ومنهل طامٍ عليه الغَلْفَق
ينير، أو يسدي به الخورنق
وردته، والليل داجٍ أبلق
وصاحبتي ذات هباب دَمْشَق
كأنها بعد الكلال زورق..
قال: وكذلك ناقة دِمَشْق. (يريد أنها تصح ناقة دَمْشق وناقة دِمَشْق) ودِمشق: مدينة، من هذا أخذ (أي أن الاسم أخذ من معاني اللغة التي أوردها اللسان.)
قيل: فدمْشِقوها أي ابنوها بالعجلة. قال الجوهري: دمشق قصبة الشام، قال الوليد بن عقبة.
قطعت الدهر كالسّدِرِ المعنّى
تُهَدّر في دِمَشقَ، وما تريم
ويروى: تهدد. (يعني بدل تهدر)
قال في التهذيب: دمشق اسم جند من أجناد الشام. ودمشقت في الشيء: أسرعت. قال الأزهري (أحد أبرز علماء اللغة) في ترجمة دمشق: جمل دوْسق إذا كان ضخماً، فإن كان سريعاً فهو دَمْشَق.» أ.هـ. من اللسان.
وهل لاحظتم: دمشق اسم جند من أجناد الشام؟ بمعنى أنها كانت أمة جهاد ومدنها معسكرات ورباطات ومسالح.. ورحم الله أيام العز. فقد غدت الجيوش لكتم أنفاس الناس!
أقول: كل معاني اللسان من السرعة والزينة والخفة متحقق في دمشق. أما الزينة والجمال والرونق والبهاء والأبهة والخضرة والأزاهير والأنهار فحدّث عن دمشق ولا حرج (خاصة في الأيام الخوالي). ولذلك اتخذها الأمويون عاصمتهم، ومنها كانت تدار الدنيا، بعدما أصبحت دار الخلافة ومستقرها ومستودعها..
ولما سقطت خلافة الشام في المشرق قامت امتداداتها في الأندلس. والأندلس جنة أخرى بنيت على الطراز الأموي (في جل عمارتها)..
وأما السرعة، فبعد أن استقرت الخلافة في دمشق أسرعت في فتوحها وتمددها، والمدينة ذاتها قامت على عجلة..
فأقاموها وزينوها على عجلة، كما الإنسان الذي خلق من عجل. وهو أغلى الموجودات وأحلى وأعلى، وهي أبهى المدائن في زمانها ذاك.. الزمان الجميل الأصيل النبيل.. ولنا مع دمشق لقاء إن شاء الله.
والشام اليوم بعيدة ..رغم قرب المسافات ..
لا تندهي يا درعا ..ولا تستنجدي يا حمصُ فلكم الله .. ونحن ما زلنا نبحث عن عروبتنا ..عن عزتنا في قواميس الماضي المزيفة ...
يا دكتور أحمد نوفل ..أحترمك كثيراً ... وكثيراً ...