الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!!
الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!! - الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!! - الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!! - الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!! - الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!!
الرئيس الذي أبكى القلوب دماً بموته قبل أن يبكي العيون دموعاً!!
د. علي العتوم
شَهِدَ اللهُ أنّني لم أبكِ ذا رَحِمٍ قريبٍ أو صديقاً حميماً افتَقدْتُه بالانتقال إلى رحمة الله، على كثرة مَنِ افتدقتُ من هؤلاء وحِزنتُ عليهم الحزنَ الشديدَ، وبكيتُ لغيابهم البُكاءَ المُرَّ كما بكيتُ على فقدي الدكتور محمد مرسي رئيسِ جمهورية مصر العربية المُنتَخَب بأصدقِ انتخاباتٍ رئاسية وأكثرِها شفافية في تاريخها كُلِّها من عهد فرعون القديم إلى عهود الفراعنة الجُدُد الذين يلفحُنا شُواظُ سعيرهم السياسيّ وتُظِلُّنا غواشي ظلمهم الاستبدادي!!
محمد مرسي العيّاط من بلدة العُدوة الريفية في أرض الكنانة، ابن الشعب البارّ ونتاجُ طبقته العامّة الذي لم يَلِدْ في القصور وفي فمه ملاعق الذهب المسروقة من دَمِ الجماهير المسحوقة، أو المسلوبة بأيدي الكبراء بتنقُّصِ طعامهم وشرابهم ودوائهم، الأخ المسلم تلميذ حسن البنّا الذي ربَّى أتباعه أنْ يتعبَّدُوا اللهَ بحُبِّ أوطانهم وخدمة شعوبهم كما يتعبّدونَه بالصلاة إليه والصيامِ له والجهادِ في سبيله، الدكتور العالِم بالميكانِك خرِّيجُ أرقى الجامعات الدولية والحافِظُ لكتاب الله الساعي لتطبيق أحكامه في واقع الحياة.
الرئيس الذي انتخبه لقيادة مصر العظيمة غالبيةُ أهلها، وفازَ بثقتهم على منافسيه من العسكر وعلى رأسهم أحمد شفيق المدعوم من دول الشرق والغرب الحاقِدَة على الإسلام، ومن الفئات المُحادّة لله ورسوله في الداخل والخارج، وبعضِ زعماء هذه الأُمّة المتآمرينَ على مصالحها بالمال والمكائد، السائرينَ في رِكاب المستعمرينَ وبني صهيون. الرئيس الذي في عامٍ واحدٍ عَمِلَ على تنمية الثروة الاقتصادية فيها بصورةٍ لم تشهدْها مصر من قبلُ، وحافظَ على ترابها أنْ تضيعَ منه ذرَّةٌ واحدة وعلى إمكانياتها أنْ تُهدَرَ منها إمكانيةٌ واحدة، الرئيس الذي فَتَحَ الباب المُوصَد أمام غزّة المُحاصرة على مصراعيه، وقام بدعم أهلها على مختلف الصُّعُد، وخاصّةً سلاحَ المقاومة، بحيث صرَّحَ على الملأ أحدُ قادتها أنّهم لم يَفُتْهم في عهده قطعة سلاح واحدةٍ!!
هذا الرئيس الربّاني الأجلُّ، صاحبُ الخُلُقِ الرفيع، والعزيمةِ الباهرة والمروءة الفائقة والسماحة الرائعة الذي لم يشهدْ عهدُه منه شتماً لأحدٍ ابتداءً أو ردّاً على أحدٍ على كثرة مَنْ شَتَمَه وتهجَّمَ عليه. لم يُوقِفْ صحفيّاً أو يسجنْهُ أو يُغلِقْ جريدته، ولم يحقدْ على أحدٍ، أو يغضبْ لنفسه أو يقسُ، أو يَسْلُكْ – حاشاه - كما سَلَكَ أصحاب السلطان مِمَّنْ رأينا في عصرنا، سواءٌ مَنْ جاء للحُكم على ظهر الدبابة أو أتى به الفرنجة من المدنيِّين بعد أنْ ربَّوْهُ على أعينهم، والكُلُّ يسير في رِكابهم. إنّه ابن الإسلام الحنيف وتلميذُ القرآن الشريف وخرِّيجُ دعوة الإخوان التي أرادتْ أنْ تبعثَ الأُمّة من مواتها.
هذا الرجل الذي جاء ليُعيدَ لمصر عظمتها ولشعبها حريته وللأُمّة جمعاء مجدَها الضائع وعِزَّها الغابر، ينقلب عليه عسكره بليلٍ بمساعدة الدوائر الأجنبية وبعض الدوائر العربية الدائرة في فلكها، وبعض أبناء شعبه من الغوغاء أو المغيظينَ تلامذة الغرب، فيُقصى عن الحكم ويُزَجّ به في السجون لسنواتٍ طِوالٍ، حقداً على الإسلام وعلى الإخوان وعلى مصر بالذات، ليُبقوها ذيلاً في مُحيط الأُمم فلا تقومُ لها وبالتالي للعرب وللمسلمين – في زعمهم – قائمةٌ، ويُوضَع في زنزانةٍ انفرادية، يُمنَع عنه الدواءُ وزيارةُ أهله ورؤيةُ محاميه، ويُوضَعُ في قفص زجاجيّ عالي الحرارة خانق، لا يستطيع أنْ يرى منه حتى قُضاتَه الذين يُحاكمونه. وتُحاط حياته في السجن بأشدِّ ألوان الإيذاء والتهديد بحياته الذي أحسَّ به أكثر من مرة وأعلن عنه أكثر من مرة!!
وأخيراً، وقبلَ يومين تُعلِن السلطات المصرية التي زجَّت به في السجن ظُلماً وعُدواناً عن وفاته بعد إحضاره لقاعة المحكمة في ظروف غامضة، تُشير الحيثيات كُلُّها الحالية والسابقة على مدى ستِّ سنوات من الاعتقال الظالم، أنَّ الرجلَ قد يكون مات مسموماً بجرعاتِ سُمٍّ دُسَّتْ له في طعامه أو شرابه أو حتَّى دوائه إنْ كان يُقدَّم له دواء، أو على الأقل قد يكون قضى بالقتل البطيء، إذْ مُنِعَ عنه في هذه المدة الطويلة أيُّ شيءٍ فيه راحتُه أو الحفاظُ على حياته بأدنى الصور. كُلُّ ذلك حقداً من نفوسٍ لا تعرفُ للحقِّ معنىً، ولا للخُلُقِ الكريمِ طريقاً، ولا للشرفِ والحياءِ سبيلاً. إنها نفوس الخِسّة والدناءَة، وقلوب الصخر والحجارة، وأخلاقُ السِّباع في الغابة والبهائم في الزريبة!!
وتأتي الأخبارُ على الرغم من الانقلاب على الرئيس الحقّ وزجّه في المعتقلات زوراً وبهتاناً وشُبَهِ قَتْلِه وإزهاقِ روحه، أجل تأتي الأخبار للتوّ بالقرارات اللئيمة بالمنع أنْ يُنصَبَ للرجل سُرادق عزاء، أو يُعمَلَ له جنازة تناسب قدْره العظيم، أو يُقامَ له حفل تأبين تكريماً لشخصه النبيل!! الله أكبر ما هذا الحقد وما هذا التجبُّر، أعادتْ حقّاً وبالتمامِ الفرعونية إلى مصر من جديد وبكُلِّ تأكيدٍ؟!
إنّني وإنْ كنتُ آسِفَاً أسفاً شديداً وحزيناً حزناً طويلاً على موت الدكتور مرسي على هذه الشاكلة، إلاّ أنَّ أسفي يَخِفُّ عندما أعلمُ أنَّ قَدَرَ الرجل أنْ يموت كأيِّ شيءٍ أو أيِّ مخلوقٍ، وصدق الله العظيم: (كُلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ)، و(كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ)، وقد حَلَّ أجلُه، وصدق سبحانه: (وما كانَ لنَفْسٍ أنْ تموتَ إلاّ بإذنِ اللهِ، كِتاباً مُؤجَّلاً). وقد جاءه هذا الأجل وهو رافعُ الرأسِ، رابطُ الجأشِ ثابِتَ القلبِ والقدم، صابراً مُحتسِباً، مُقبِلاً غيرَ مُدبرٍ، وإنّنا لنعتدُّ أنَّ موته بهذه الطريقة – إن شاء اللهُ – شهادةً، غيرَ أنَّ أسفي الأشدّ على مصر نفسها، مصر المحروسة، مصر الكِنانة، مصر النيل، مصر عمرو بن العاص، مصر صهرُ الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبه التي أوصى بأهلها خيراً، كيف َآلتْ حالُها – وهي قائدة العرب والمسلمين – إلى هذا الوضع البئيس،
يا مصرُ، أيُّها البلد العظيم، ويا شعبَها أيها الشعب الكريم، ويا أيها النيل يا مَنْ أنتَ لمصرَ هبتُها، أيها الأزهرُ الشريفُ يا مَنْ كنتَ وما زلتَ قلعةَ العالم الإسلامي المنيعة وحِصْنَ الإخوان المسلمين الحصين، يا مَنْ خَرَّجْتَ المشايخَ الأجلاّء من زعماء الإخوان وعلماء العالم الإسلامي الأفذاذ وأساطين الدعوة والجهاد من أمثال: مصطفي الطير وعبد المُعزّ عبد الستّار ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وغيرهم كُثُرٌ، لا نرضى لكم هذا الوضع، فالخيرُ في مصر ما زال موجوداً وفيؤُها للحقِّ ما فَتِئَ مأمولاً، فانتفضي يا مصر على هذه الحال، وعُودِي إلى عهدكِ حرةً أبيّةً تُقاوِمينَ الظلمَ والاستبدادَ وتقفين في وجه الطغيان والإلحاد،
أنتَ يا أخي مرسي، رحمكَ الله. مرحى لك على صبركَ فأنت الرابح الكاسب والفائز المُفلِح، لكَ الشهادة والجنّة وبرحى لأعدائك وظالميك العار والشنار ومن ثَمَّ دار النار والسُّعار، سيَكتُب عنك التاريخُ وتشهدُ الأجيالُ الحاضرة والقادمة، أنّكَ الرجل الذي لم يَبِعْ ولم يشترِ بدينه ودعوته، الثابت على الحقِّ الذي لم يَهُنْ ولم يَلِنْ في أشدِّ الظروف قسوةً، وعن أعدائِكَ سيكتبُ التاريخ وتقرأ الأجيال أنّهم أعداء مصر العظيمة. فامضِ مستشهداً يا أخي، وإلى جنّة اللهِ ورضوانه، على طريق رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي من شهداء السَّلَف، وعلى طريق البنّا وقُطُب وفرغلي والسنانيري من شهداء الخَلَف. وقد ذَكَّرَني قرارُ الظلمة بمنع تكريم جنازتكَ الجليلة وجثمانكَ الطاهر، ما قرَّره فاروق لجنازة أُستاذِكَ وأُستاذنا جميعاً البنّا رحمه الله وجعلَ الجنّة مأواكَ ومأوانا ومأواهُ، خابوا وخسروا وربِّ محمّدٍ وفزتَ أنتَ وربِّ الكعبة!!
أخي مرسي، سلامي إليكَ في الأوّلين، وسلامي إليكَ في الآخِرِينَ، وسلامي إليكَ في الملأ الأعلى إلى يومِ الدين. أسأل اللهَ أنْ نلتقيَ جميعاً برحمة الله في عليِّينَ وعلى حوض رسوله الأمين، واعذرني أنّني لا أملِكُ لنصرتكَ إلاّ حُزني الشديد عليكَ وإطرائي الدائم لخصالك الرفيعة، ودعائي الطويل لكَ بالقبول عند الله، وتأبيني إيّاكَ في هذا المقال وأبياتَ شعرٍ قلتُها يوماً في تهنئتكَ بالرئاسة، ستظهر في ديواني (نورٌ من الشرق) عندما يأذنُ اللهُ بنشره، كما لا أملك إلاّ هذه الدموع الحَرّى التي سفحتُها أكثرَ من مرّة حالما طرق مسمعي نبأُ استشهادكَ، دموعاً رأيتُ مثلها من ذلك الرجل العظيم رئيس تونس السابق الدكتور المنصف المرزوقي على شاشة التلفاز وهو يُؤبِّنكَ ولا يكاد يتمالكُ من شدّة حزنه، فشكراً له على موقفه النبيل، كما أَذكُر بالإكبار والشكر تعزية الكرام السادة: رئيس قطر تميم بن حمد ورئيس تركيا رجب طيب أردوغان والأخ حمد الجبالي رئيس وزراء تونس الأسبق والأخ عبد الرزاق المقري زعيم حزب حَمْس في الجزائر وحاتم عزّام النائب المصري السابق ومحمد محسوب أحد وزراء مرسي وأيمن نور زعيم حزب غد الثورة في مصر، وكُلُّ مَنْ ينهج هذا النهج مِمَّنْ سمعتُه ومِمَّنْ لم أسمعه.
عزائي لأُسرة الشهيد وإخوانه في العالم كُلِّه، وللعرب والمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها، ومع السلامةِ أخي مرسي في ظلال قوله تعالى: (يا أيَّتُها النفسُ المُطْمَئِنَّة * ارجعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مرضيّةً * فادْخُلِي في عبادِي * وادْخُلِي جنَّتِي)، وإلى رحمة الله في الخالِدِينَ، (وسيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلِبٍ سينقَلِبونَ)، وإنّا للهِ وإنّا إليهِ راجِعونَ، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.